إن البحث ضروري لبناء المعرفة، لكن لا يمكن أن ينخرط فيه الإنسان إلا إذا كان يمتلك حدا أدنى من الفضول المعرفي، لأن هذا الأخير هو  وقود التعلُّم ومحركه. وهذا ما يفرض على المدرس الكف عن إعطاء كل شيء للتلاميذ، إذ إن هذا الأسلوب يخمد فضولهم ويستأصله، وبالتالي يحول دون بزوغ ذواتهم.

لقد عودتنا ثقافتنا المدرسية على أن المدرس هو من يطرح الأسئلة، حيث يظن أنه وحده يعرف ما يجب أن يتعلمه التلميذ، وأن من واجبه أن يرشده !. لكننا نعرف أن ج. ج. روسو J. J. Rousseau كتب منذ أكثر من قرنين من الزمن "أننا لا نتعلم جيدا إلا ما يجيب على الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا"، أي تلك الأسئلة التي يطرحها المتعلم على ذاته!
وعندما يطرح التلميذ الأسئلة على ذاته، فإن المعارف لا تكون نتاجا ميتا، أو بديهيات مكتفية بذاتها يتطلب اكتسابها فهمها. وإذا حدث ذلك، فإنه مناقض لإرادة وضع المتعلم في قلب سيرورة التعلُّم، إذ تكون المعرفة مركز التعلُّم ومحوره، ويسود الاعتقاد بأنها موجودة هناك في الخارج، حيث يكفي أن يذهب إليها المتعلم لاقتطافها والتحكم فيها. تبعا لذلك، فإن هذا الموقف يسير في الاتجاه المعاكس لما توصل إليه علم النفس المعرفي من حقائق حول سيرورات التعلم. فليس هناك مجال للشك، ولا لطرح الأسئلة من قِبَلِ المتعلمين الذين غالبا ما يبرهنون على خيال واسع كلما أتيحت لهم فرص لطرح أسئلتهم الخاصة. وهكذا، تتحول المدرسة إلى فضاء مناهض للاكتشاف والابتكار والإبداع.

لكن أغلب مقرراتنا الدراسية تجعل المدرس وحده يطرح أسئلته النمطية التي تكون مُتَوَقَّعة من لدن التلاميذ لكونه يكررها على مسامعهم باستمرار. وهكذا، فلا مجال للتلاميذ ليطرحوا أسئلتهم الخاصة، مما يحول دون انخراطهم في التعلم، وتطوير إشكاليتهم الخاصة، وإقامة علاقة سليمة بالمعرفة. نتيجة ذلك، فإن الأمر عندنا يتعلق بفرض أسئلة على التلاميذ، لا بتشجيعهم على طرحها وبروز لغتهم الخاصة، الأمر الذي يعوق ظهور ذواتهم وتطويرهم لمشاريعهم الفردية والمهنية... وهكذا، فمن المفيد تشجيع التلاميذ على طرح أسئلتهم الخاصة على العالم وتعلم تقبل الأسئلة التي يطرحها عليهم العالم المحيط بهم. ويعني ذلك أنه ينبغي أن يَشُكُّوا في تصوراتهم وفي كل ما يقال لهم ويحدث أمامهم، ويعوا أنهم لا يعرفون، ويدركوا نسبيا أن المعرفة سيرورة وصيرورة.

غالبا ما يسعى التدريس عندنا إلى الإجابة على أسئلة لا يطرحها التلاميذ على أنفسهم. ويرجع ذلك إلى سببين اثنين: إما لأنهم لا يطرحون أي سؤال على ذواتهم، ولا على العالم.  وهذا أمر خطير، إذ لا يمكن تصور فرد بدون أسئلة! وإما لأنهم غالبا ما يطرحون أسئلة أخرى لا علاقة لها بما يرغب فيه المدرس ويتوقعه منهم. ومن الملاحظ أن هناك فرقا كبيرا بين أسئلة المدرس وأسئلة التلاميذ، ما يجعل من المفيد الانطلاق من أسئلة هؤلاء دون التوقف عندها، إذ ينبغي دفعهم إلى تدقيقها وتعميقها، بل وتجاوزها.
يقول فرانسوا جاكوب
François Jacob إن الأسئلة أهم من الأجوبة. ويعني ذلك أن الأمر لا يتعلق فقط بمضمون الأسئلة، ولكن أيضا بكيفية صياغتها. فهي ليست وليدة فراغ، بل إنها تُبنى انطلاقا من المعرفة الأولية للذات المتعلمة.

تشكل أسئلة التلميذ مقاربة أولى للمعرفة المبنية، إذ يساعده طرحها على الخروج مما هو جزئي وبديهي ونمطي. وتبعا لذلك، فإن عملية بناء المعرفة تبدأ مع بداية طرح الأسئلة. وهذا ما يستلزم تشجيع المدرس للتلاميذ على طرحها، أو على الأقل، على الإجابة على الأسئلة التي يطرحونها على ذواتهم. كما ينبغي ألا يتخوف من تناسل أسئلتهم، إذ يدل ذلك على تقدمهم في التعلم، حيث لا يحدث هذا الأخير بدونها.


يرى الفيلسوف "ألان"
Alain أن طريقة طرح السؤال قد تقتل الجواب الجيد. وينطبق هذا على ما تفرضه، اليوم، أغلب برامجنا الدراسية على مُدرسينا، حيث يبنون دروسهم عبر طرح أسئلة مغلقة ومتتابعة على التلاميذ. وقد يؤدي ذلك، أحيانا، إلى جعل هؤلاء يتوصلون إلى بعض النقط التي يتوقعها المدرسون منهم. كما أن المدرس وحده هو الذي يعرف الاتجاه الذي يجب أن تسير فيه جماعة الفصل الدراسي. وغالبا ما تترك لدينا هذه الوضعية انطباعا خاطئا بأن التلاميذ نشطون وحيويون، ويشاركون فعلا في بناء المضامين المعرفية. لكنهم، في الواقع، لا يفعلون سوى تخمين الأجوبة المرغوب فيها من قِبَل المدرسين. وهكذا، تسود بيداغوجية نقل المعرفة، لا بيداغوجية بنائها، إذ لا يجيب التلميذ على أسئلته الخاصة، بل يصوغ ما يتوقعه منه المدرس، ويتكيف مع انتظاراته. إنه حاضر جسديا، لكنه غير موجود فعلا، لأن المدرس يرمي من وراء أسئلته إلى جعل التلميذ يتكلم كما يحصل في مخفر الشرطة، حيث يعرف المحقق الأجوبة ويحاول انتزاعها من الشخص الذي يحقق معه عبر جعله يتكلم ولا يعبر عن ذاته، مما يجعله غير موجود! (G. De Vecchiet N. Carmona Magnaldi).

نلاحظ عادة أن المدرس يسأل تلاميذه قائلا: "هل فهمتم؟"، "هل الأمر واضح؟"، "هل تدركون ما أريد قوله؟." إن هذه الأسئلة ليست حقيقية، ولا دلالة تعلُّمية لها، ولا ينتظر أصحابها جوابا فعليا عليها. كما أنها أسئلة نمطية تجعل التلميذ يدور في الفراغ، ولا ينطلق في المعرفة. أضف إلى ذلك أنها مجرد إشارات من المدرس يرمي من ورائها إلى شد انتباه التلميذ. أما الأسئلة المثمرة، فهي تلك التي تكون مفتوحة ولا يحمل كل منها في ذاته جوابا، بل هناك إمكانية لوجود أجوبة عديدة عليها. كما أنها تشجع التلاميذ على التفكير والاقتراح والفعل. وكمثال على هذا النوع من الأسلة نجد: "ماذا ترون في ذلك؟ ما العمل؟ كيف يجب أن نتصرف؟ كيف يمكن أن نتأكد؟ من هو على صواب؟.

وجدير بالإشارة أن البيداغوجية التقليدية تنهض على طرح أسئلة جد بسيطة، في حين أن البيداغوجية اليقظة تركز على أسئلة التلميذ. أما البيداغوجيات النشطة والبنائية فإنها تطرح أسئلة مفتوحة، أو تجعل التلاميذ يطرحونها على أنفسهم، كما أنها تشجعهم على إيجاد جواب أو أجوبة متعددة عليها. وتؤكد التجربة أن سبب عدم طرح تلاميذنا للأسئلة راجع إلى أن العمل المقترح أو المفروض عليهم القيام به لا يثيرهم، ولا يعني لديهم شيئا. وإذا تردد المدرس في إدخال تلاميذه في عملية بحث فعلية، فيتعين عليه أن يأخذ بعين الاعتبار الدور البيداغوجي للأسئلة. وهكذا، فإذا اختار نقل المعرفة مباشرة، أو إنجاز التلاميذ لعروض...، فيلزمه، على الأقل، توفير الشروط البيداغوجية لتطوير إشكالية أو إثارة أسئلة التلاميذ للتمهيد لهذا النشاط ومنح معنى لموضوعه وللأجوبة التي ستأتي لاحقا. وهكذا، ينبغي تمكين التلاميذ من اكتساب ملكة الشك، والقدرة على التساؤل باستمرار، والتفكير فيما يقال لهم وما يقولونه، وفيما يؤمن به الآخرون وما يؤمنون به هم ذواتهم.

قد تكون، أحيانا، أسئلة التلاميذ بدون أهمية ولا فائدة، حيث تهتم بتفاصيل قد تظهر تافهة. لكن قد يكون ممكنا استثمارها للانخراط في التعلم عبر بناء المعرفة. ويقتضي طرح سؤال توظيف معارفنا في تطوير تصوره وصياغته. ويدل تغيير الأسئلة على تطور معرفتنا. وهذا ما يشكل عنصرا للتقويم بالنسبة للمدرس والتلميذ الذي يجب أن يعي ذلك.

بقلم: محمد بوبكري