ولكن الهدية التي أعنيها تختلف عما تحدثتم به. فنظروا إليّ باستغراب وبادرتهم بالجواب وقلت لهم: سأقول لكم ما بخاطري بعد ذكر هذه القصة الواقعية، فقد كان أحد الآباء ينوي الخروج من منزله فوقف أمامه عند الباب أحد أبنائه ويبلغ من العمر سبع سنوات وقال لوالده: إلى أين أنت ذاهب؟ فرد عليه الأب بعصبية: هذا ليس من شأنك، ثم دفع ابنه بقوة وخرج من البيت فلما ركب سيارته شعر بتأنيب الضمير فنزل من سيارته ودخل بيته فوجد ابنه يبكي في غرفته وعلى فراشه فاقترب منه يعتذر له فسأله ابنه: بابا كم قيمة ساعتك بالعمل؟ فرد عليه الأب وهو مستغرب من سؤاله خمسة عشر ديناراً فقفز الإبن مسرعا إلى محفظته واستخرج منها خمسة عشر دينارا وقدمها لوالده، وقال له أنا أريد أن أشترى منك ساعة حتى تأتي اليوم مبكرا وتتناول العشاء معنا لأنك لا تجلس معنا على العشاء كل يوم، فصدم الأب من ردة فعل ابنه وذرفت عيناه بالدمع ثم احتضنه وقال له: دع نقودك في محفظتك واليوم سأحضر مبكرا لتناول العشاء معكم إن شاء الله، ثم خرج من بيته وهو يفكر أثناء الطريق في حياته وعائلته.
فلما انتهيت من ذكر القصة التفت إلى من حولي وقلت لهم (الوقت) هو أغلى وأهم هدية نقدمها لأبنائنا ونحن غالبا نهمله ولا نفكر فيه، فكل دقيقة تصرفها معهم تشعرهم بالأمن والأمان والراحة والإطمئنان وكلما اشتم الأطفال رائحتك معهم ولو لم تفعل معهم شيئا شعروا بالقوة والثقة والإستقرار والحب.
وأذكر بهذه المناسبة أحد الأصدقاء قال لي يوما بأنه رجع لبيته مبكرا من أجل الجلوس مع أبنائه ولديه أربعة من الأبناء فلما دخل بيته شاهد أبنائه يلعبون مع بعضهم البعض فجلس بقربهم يقرأ كتابا وبعد مضي ساعتين شعر أنهم لا يحتاجون إليه، فقام متجها إلى الباب وعندما وضع يده على مقبض الباب جاءته ابنته الصغيرة مسرعة وعمرها خمس سنوات وقالت له بصوت عال إلى أين يا أبي؟ فرد عليها أريد أن أخرج لأقضي بعض أشغالي، فقالت له اجلس معنا فرد عليها ولكني كنت معكم ولمدة ساعتين ولم يكلمني أحد منكم، فنظرت إليه باستعطاف وقالت له بابا عندما نلعب وتكون أنت جالس معنا وننظر إليك بين فترة وأخرى نشعر بالسعادة، فتأثر الأب من كلماتها ورجع داخل بيته وجلس بقربهم وهم يلعبون.
يقول لي هذا الأب لقد عبرت ابنتي عن مشاعرها الداخلية وما كنت أعرفها وأتصورها لو لم تفصح بها وكم من طفل يكتم مشاعره تجاه والديه، فالأطفال يربطون الحب بالعطاء فإذا خصصنا جزءا من وقتنا لهم فهم يفهمون من الوقت الذي نقضيه معهم أننا نحبهم، هكذا هم يفكرون، فالوقت يساوي حب والوقت استثمار للمستقبل فقد نجح يوسف عليه السلام في شبابه ودعوته وادارة وزارته وتجاوزه فتنة النساء بسبب الوقت الذي صرفه يعقوب عليه السلام في الجلوس معه والحوار معه وإبراهيم عليه السلام يحاور ابنه في الذبح ويطلب منه المساعدة في بناء الكعبة اليس ذلك وقتا يقضيه الأب مع ابنه، ولكن كانت النتيجة أن ابنه صار نبيا من بعده والقصص في ذلك كثيرة.
واليوم نعيش أزمة التفويض في التربية ونترك الأطفال مع الخدم أو أمام الشاشات الفضية ثم نتمنى أن يكونوا من أهل الصلاح والاستقامة والتميز والإبداع ونحن لا نعطيهم من وقتنا إلى فضلة أوقتنا ونكون كمن يركض خلف السراب ويرجو أن يشرب منه الماء.
أعط من وقتك لأبنائك وتواصل معهم بصريا عند اللقاء وجسديا عند الجلوس وكلاميا عند الحوار وعاطفيا عند التعبير ونفسيا عند الأزمات ودينيا في كل حياتهم عندها سيكون ابنك كما تريد.
بقلم : جاسم المطوع