بعد عقود متعاقبة من الوجود والأداء، ما فتئ كثير من المتدخلين التربويين والإداريين ينظرون بعين الريبة والاتهام إلى المفتش التربوي؛ تارة ينسبونه إلى الكسل والخمول، وتارة أخرى يسِمونه بمياسم التسلط والاستبداد ؛ وبين طرفي هذين الوصفين أشكال وألوان أخرى يضيق المقام عن بسطها. غير أن الموضوعية تقتضي الإقرار بوجود مساحات واسعة تتحرك فيها أغلبية محترمة من أطر التفتيش بتجرد وتضحية وإنكار للذات، رغم إكراهات المنظومة وضعف وسائل العمل فيها.
أمام الهشيم اليابس الذي يخطو عليه المؤطر التربوي إذن، تكبر الحاجة إلى تفادي كل احتكاك غير تربوي، قد تؤدي شرارته إلى اضطرام نيران الاصطدام والقطيعة والمواجهات التي تدمر الذات التعليمية، وتهدر أمامنا فرصا كثيرة لمعالجة الاختلالات المختلفة.
إن أهم علاقات المفتش التربوي داخل مجال اشتغاله.. تلك التي تجمعه بأساتذة منطقته التربوية؛ ولذلك من اللازم أن ينظر في بنائها وتقويتها، والسهر على حمايتها من أنواء التوتر والاضطراب..فقد مضى عهد المفتش التربوي المسكون بوسواس التربص وإحصاء أنفاس المدرسين.. والذي تتحول معه العملية التربوية إلى مطاردات بوليسية يستمرئ فيها ممارسة أدوار التحقيق والاستجواب، ويتلذذ بنصب الفخاخ وكشف العثرات؛ إنه نموذج ضمُرت مسوغات وجوده، بما عرفته الحياة العامة من انفتاح ونزوع نحو تكريس الحقوق الذاتية، والمناداة بالتشاركية في مقاربة كل القضايا المجتمعية. فإذا كان المفتش التربوي حريصا على تأطير المدرسين وفق النظريات التربوية الحديثة التي تعلي من شأن التعلمات الذاتية، وتحرص على تمكين المتعلم من أدوات اشتغال مناسبة، مراعية قدراته وميولاته التعلمية، وفي احترام كامل لكينونته الإنسانية، وتقدير واع للسياقات الاجتماعية والنفسية التي يعيشها.. فإنه على الوزان نفسه مطالب بتنفيذ هذه الرؤية التربوية المتنورة في علاقته مع مدرسي منطقته التربوية؛ بل هي من باب أولى، لأنه يدخل في حوارات تأطيرية مع موظفين في أعلى هرم النضج المعرفي والتربوي والاعتباري.
إن مفتاح نجاح الجيل الجديد من المفتشين التربويين رهين بمدى فهمهم للمتغيرات الثقافية والاجتماعية والنفسية التي انهمرت بها أمطار العولمة مؤخرا، مما وسع هوامش الحرية في التفكير والتعبير، وجعل الحنين إلى ممارسة السلطة بمعناها الضبطي في مجال التربية أمرا يقود إلى الباب الموصد حتما؛
ههنا إذن يمكن الحديث عن مقاربة تأطيرية تستند إلى تعاقدات تربوية بين المفتش ومدرسي منطقته التربوية؛ إنها تعاقدات تنسجم مع العصر، وتمتح من نظريات التواصل الحديثة في احترام تام للأدوار الوظيفية التي توزعها الوثائق الرسمية على مختلف المتدخلين.
يمكن إذن رص مكونات هذه التعاقدات في العناصر الآتية:
1 - الإنصات:
حيث ينبغي للمؤطر التربوي أن يصغي باهتمام وتركيز تامين للبوح المؤلم الذي يغلي في صدور المدرسين، الذين لا يجدون فرصا كثيرة لبث ما يجدون من ألوان المعاناة التربوية والبيداغوجية والديداكتيكية التي يكابدون في علاقاتهم البينية، أوفي علاقتهم مع متعلميهم، أوبغيرهم من المدبرين الإداريين والتربويين.. غير أن هذا الإنصات ينبغي ألا يتحول إلى بكائيات سوداء للتعويض النفسي.. بل هو إنصات مؤسس على احترام ذات راشدة في نيل حقها كاملا في التعبير، وبسط رؤيتها للمشاكل الواقعية التي تضطرب بها الفصول الدراسية.. مما يساعد المفتش التربوي على تكوين صورة واقعية للمنظومة من داخلها، بعيدا عن التشخيصات المفارقة للحقيقة؛ إنه إنصات يميز بين الإكراهات الكبرى التي تعانيها المنظومة برمتها، والتي يتم توجيه النقاش حولها إلى سياقات أخرى مناسبة، وبين إكراهات من صميم الممارسة التربوية والبيداغوجية والديداكتيكية للمدرسين، والتي يحرص المفتش التربوي على استثمار لحظات البوح بها في أفق استشراف حلول مناسبة لها.
2 - الإشراك:
إن التأطير التربوي الناجح هو الذي يكون بأصوات متعددة متناغمة؛ فقد مضى عهد الديكتاتورية المعرفية التي كانت تؤله المفتش، وتلبسه أردية القداسة خوفا وطمعا؛ نحن اليوم أمام انفجار معرفي شتت المعلومات وجعلها تتطاير في كل اتجاه.. وليس بين الإنسان المعاصر وطوفان المعرفة سوى نقرات قليلة على النت.
في المدرسة المغربية اليوم مدرسون من فئة المبدعين والباحثين، وبعضهم يجر خلفه مسارا حافلا من العطاء والإنجاز؛ وسيكون من الحيف تغييب هؤلاء عن الفعل التأطيري إساءة للظن بقدراتهم وكفاياتهم العلمية والتربوية، أو حرصا على شيء تواضع المهتمون على تسميته بالسلطة المعرفية للمفتش. إن النجاح في التأطير يعني تحفيز هذه الفئة المجتهدة من الأساتذة للمشاركة في برامج التأطير والتكوين، مما سيشكل تثمينا لمجهوداتهم وتحفيزا لبقية زملائهم، وسيحول المنطقة التربوية إلى خلية نحل نشطة، تتحرر فيها المبادرات، وتنفتح فيها أوراش العمل، وتتحرك في دروبها فرق البحث.
3 - احترام الأدوار والمسؤوليات:
لا يعني العنصران السابقان تعويم الدور الفعال الذي يقوم به المفتش التربوي، كما لا يعنيان تخليه عن مسؤولياته المحددة قانونا؛ بل هما تأكيد نوعي على ممارسة المهام التأطيرية بوعي تام، واستبطان كامل للتحولات التي شهدتها الساحة التربوية في السنوات الأخيرة. ولذلك، فإن المفتش التربوي مطالب بتفعيل كل اختصاصاته، وأداء مختلف أدواره التأطيرية والتكوينية والبحثية والتدخلية والرقابية، بما تتطلبه الحكامة التربوية الجيدة، مع نزوع حقيقي نحو رعاية الحس الجماعي في كثير مما يتيحه السياق، ويقتضيه نوع المهام.
إن المشرف التربوي وهو يؤدي مهامه المختلفة، يجب ألا تفوته حقيقة محورية في عمليات هذا الأداء: إنها أمواج متلاطمة من النفسيات المختلفة، وميولات متباينة من الأفكار والاتجاهات الثقافية.. مما يجعل الحركة محسوبة الخطوات، محاطة بالانتباه الشديد، والتركيز الكبير.
لقد رأينا كثيرا من حالات الانسداد التربوي بين المفتش والمدرسين بسبب تغييب هذه الحقائق المؤثرة؛ ولذلك سيكون النجاح في بلورة العناصر أعلاه رهينا بقدرة المفتش التربوي على نسج علاقات تواصلية مع مكونات منطقته التربوية، تقوم على إدراك حقيقي لتفاصيلها، ومعاملة تقوم على العدل والمساواة بين عناصرها دون محاباة زمالة سابقة، أو قرابة فكرية أو سياسية تغض الطرف عن الاختلالات.
إن تجسير الهوة بين المفتش التربوي والسادة المدرسين لا يقوم إلا على قواعد الثقة المتبادلة التي تمتح من تقدير الذات التربوية، والانتصار لمظالمها المختلفة، مع اعتماد الصراحة والوضوح في تقييم المهام المنوطة بالشركاء جميعا، وتقبل الاختلاف والتنوع في الآراء والاجتهادات مادامت جميعها تحترم المدخلات القانونية والمنهجية للمنظومة التربوية.
تبدو إعادة النظر في علاقة المشرف التربوي بالمدرسين والنحو بها مناحي التكامل والتعاون والانسجام، بابا كبيرا لزرع الأمل في مستقبل المدرسة المغربية، واجتثاث فكر التيئيس الذي ينشر الإحباط، ويدعو إلى نفض اليد من المدرسة المغربية.
بقلم: محمد شهبون