فلسفة التربية تساؤل شامل حول كل ما نعرفه أو نعتقد أننا نعرفه عن التربية. وهذا ما يعطينا صبغة الشرعية. وفيلسوف التربية لا يمكن أن يتجاهل علوم التربية، ومنها العلوم النظرية المطبقة على التربية، والعلوم النوعية التي تمخضت عن المشاكل المطروحة من طرف التربية ذاتها. ولا يمكن أن تكتسي هذه العلوم طابع العلمية إلا إذا فسرت. وكلمة التربية جاءت من فعلeducre  وليس  ducre. وتعني ربى الحيوانات، أو النباتات. وأصبح عن طريق الاشتقاق يدل على العناية بالأطفال. وقد كانت كلمة تربية في اللغة الفرنسية خلال القرن 19 تعني آداب السلوك. مما يفرض التكيف مع أعراف الطبقة العليا ورموزها، وقيمها، وألفاظها المداولة. ولكنها كانت تعني-أيضاً- الضبط الحقيقي للنفس.

  أما الكلمة الإنجليزية، فتعني التعليم كمؤسسة. أي النظام المدرسي والجامعي. ويمكن للشخص أن يكون متعلما وليس ذا تربية حسنة. وفعل (ربى) له ثلاثة مرادفات رئيسية، هي: (علّم- أنشأ- كوّن).فأنشأ أو ربّى ترجع للتربية في معناها الحصري، وأساسا تربية الأسرة، يتعلق الأمر بتربية تلقائية.و (علّم) أو (درّس) يدل على تربية مقصودة. إنه نشاط يمارس في مؤسسة أهدافها واضحة، ومناهجها مرموزة. ويتم الإشراف عليها من طرف محترفين. وبذلك في (ربى) و (علم) هما إذن نشاطان مختلفان، وربما ينفي أحدهما الآخر. أمّا (كون) فإنها تثير الجدل، حيث أنا نقيم تعارضا بين التعليم الجاف (الكتبي) والتكوين الجيد (الإنساني) السخي الذي يعلمنا كيف نحيا. فما هو التكوين؟.إنه تهييء الفرد لهذه الوظيفة الاجتماعية أو تلك. فهل يمكن أن نرى فيه شكلا من أشكال التعليم؟. مع ذلك فاللغة المتداولة توحي هنا أيضا بعلاقة منافاة: ( نعلم شيئا ما لشخص معين). و (نكون شخصا من اجل شيء معين). فالتلميذ هو غاية التعليم، أو على الأقل موضوعه، والوظيفة الاجتماعية هي موضوع التكوين.

  هكذا نجد أن التربية- التعليم- التكوين، مرادفان تربط بينهما علاقات إقصاء إلى درجة أننا حتى ولو تعلمنا نفس الشيء في الحالات الثلاث، فإننا لا نتعلمه أبدا بنفس الطريقة، رغم ذلك فإن الألفاظ الثلاثة رغم أنها متناقضة، فإنها تقيم فيما بينها علاقة تكامل. والسؤال المطروح، هو: هل نحن بشر عن طريق الولادة؟. أم نصبح كذلك بواسطة التربية؟.تقول العلوم الإنسانية أن المولود الجديد في أيامنا لا يختلف في شيء عن المولود في العصور ما قبل التاريخية. كل ما اكتسبته الإنسانية خلال آلاف السنين، له طابع ثقافي، وليس طبيعي. إنه ينقل ليس بواسطة الوراثة، ولكن عن طريق التربية. والطبيعة الإنسانية تتفاعل خارج إطار التربية.انطلاقا من ذلك، هل بإمكاننا تحديد غايات التربية؟.

 إننا نرى الطفل من أجل المجتمع تبعا للقيم الخاصة بهذا المجتمع. وبالعكس يطالب القائلون بالطبيعة الإنسانية بتربية الطفل من أجل نفسه كي نسمح له بالتفتح حسب طبيعته الخاصة. وهكذا يبدو أنغاية التربية هي أن تسمح لكل واحد بتحقيق ذاته في إطار ثقافة ذات نزعة إنسانية أكيدة. وبالتالي فالتربية هي مجموعة السياقات، والطرق التي تسمح للطفل البشري بأن يقترب بالتدريج من الثقافة. تلك الثقافة التي تميز الإنسان عن الحيوان. هذه التربية تعتمد على مؤسسات تربوية، والتي هي حقيقة اجتماعية مستقلة نسبيا، ثابتة ومنتظمة، ملزمة تبعا لقواعد. وهي تتميز بدورها المجتمعي. ولكل مؤسسة تربوية وظيفتها. وهي الدور الفاعل الذي تقوم به المؤسسة داخل المجتمع ككل.

فالمدرسة ذات وظيفة مزدوجة: وظيفة تفاضلية تتمثل في إعداد الأطفال لمهامهم المهنية المستقبلية. ووظيفة توحيدية تتمثل في تدعيم وحدة الأمة لتعليم نفس اللغة، ونفس المعارف الأساسية، ونفس القيم. والمؤسسة الأسرية تقلصت وظائفها وسلطتها، وحجمها، ورغم ذلك لا زالت الأسرة تحتفظ بوظيفتها الرئيسيتين تجاه أبنائها: حمايتهم، وتربيتهم.أما المدرسة،فهي منشاة إعطاء تعليم للعموم. ثم إنها المؤسسة الوطنية، أو الخاصة التي تشكل المنشأة في نهاية المطاف أحد أعضائها، وهي المؤسسة التي تعطي تعليما أساسيا متماثلا لكل الأطفال وبغير غاية مهنية.

 أمّا الجامعة، فهي مؤسسة تجمع بين التعليم العالين والبحث الأساسي. وبذلك تتحدد ثلاثة أنواع من الوظائف التي تدخل في اختصاص الجامعة. فهناك أولا الوظائف التعليمية، وهناك التعليم التثقيفي، والمهني. وهناك التعليم الخاص بالبحث.إذن المؤسسات متناقضة فيما بينها، وفي قطيعة. وهنا تكمن مشكلة البيداغوجيا.والبيداغوجيا له معنيان، يدل في المقام الأول على حالة كون الشخص رجل تربية، مكتسب المهارة لفن التربية والتعليم. أما المقام الثاني فتدل على نظرية هذا الفن. والبيداغوجيا كفن وكنظرية لا يمكن الاستغناء غنها في مجال التربية. ويمكن تقسيم النظريات البيداغوجية إلى ثلاثة تيارات: ( التيار الكلاسيكي، والتيار المجدد الذي ينطلق من الطفل بتجاربه ورغباته الخاصة، ويدعو إلى ملاءمة ما نعلم مع مستوى المتعلمين. والتيار الوظيفي أو التقني الذي ينزع إلى أن يجعل من البيداغوجيا علما مضبوطا، أو تقنية فعالة ومضمونة). والبيداغوجيا ترتبط بطريقة علمية بالسياسة.وتبدو التربية بمثابة علاقة عمودية بالمعنى الذي يضع فيه أشخاص أنفسهم فوق الآخرين.

  إنّها إذن علاقة سلطة تتجلى بطرق متعددة: سلطة الأب، المعلم، الممتحن، المؤسسة.والسلطة هي المقدرة التي يمتلكها شخص ما ويدفع بواسطتها آخرين إلى عمل ما يريد هو بدون أن يلجأ للعنف. هذا النفوذ أو تلك القدرة ترجع إما لوضعيته الاجتماعية، أو لكفاءته، أو لهيمنته. وأول أشكال السلطة التي يلاقيها الطفل هي سلطة الأب. لأن أول سيطرة تمارس عليه تقدم نفسها له على أنها شبه مطلقة، وتبرر نفسها بان من يمارسها يمثل الحضارة التي يجب أن ينتسب إليها الطفل حتى قبل أن يفهمها. وان الطفل يجب أن يحمى ويعالج حتى لا يتعرض للهلاك. ولكن من يحتاج للتربية يحتاج للسلطة. وغاية التربية تكمن في تعلم التخلي عن السلطة. وهكذا نرى أن المشاكل البيداغوجية تكتسي بعدا سياسيا، أي انه توجد صلة بين النظام السياسي والنظام التربوي /البيداغوجي. 

بقلم: أليفي ربول / ترجمة: عبد الكبير معروفي  

أضف تعليق


كود امني
تحديث