أطلق على مرحلة ما بعد عصر النهضة حتى بداية القرن التاسع عشر تسمية العصر الحديث، وقد وصفت هذه المرحلة بالحداثة لأنها مرحلة عرفت مجموعة من التحولات والتغيرات التي همت مختلف الميادين، خاصة منها العلم والفلسفة والسياسة والأخلاق والتربية.

 في هذه المرحلة تغيرت نظرة الإنسان إلى ذاته وإلى العالم، فكل تجديد يصيب البيت العلمي كان يستدعي مباشرة إعادة بناء وترتيب البيت الفلسفي بكل مباحثه الرئيسية، وذلك في إطار التفاعل النظري العميق بين العلم والفلسفة، ينسحب هذا المبدأ على شتى مراحل التاريخ البشري، ومنها العصر الحديث الذي استحق صفة الحداثة بعد أن نزع عن ذاته [بعد مخاض طويل] تقاليد العصور القديمة والوسطوية.

 لقد فهم العصر الحديث ذاته على أنه عصر التقدم والتطور والتغيير في كل شيء، لقد بدأت الحداثة من علم الفلك عندما ظهرت نظرية كوبيرنيك التي أزاحت الأرض من مركز الكون، ووضعت بدلاً منها الشمس. كان من نتائج تغيير المراكز بين الشمس والأرض أن انهار مفهوم الحقيقة المطلقة بنظام العالم ومكوناته.

 لقد كان ثبات الأرض يضمن للمعرفة الإنسانية صلاحيتها وصدقها المطلقين، أما وقد كفت الأرض عن أن تكون في المركز فإن المعرفة الإنسانية تصبح نسبية ما دام أن الموقع الذي تقف عليه الذات ليس إلا موقعًا من جملة مواقع أخرى للملاحظة. كانت الأزمة التي فجرتها الكوبيرنيكية أزمة حواس، دلالتها الإبستمولوجية تقتضي بناء الفلسفة والعلم على العقل، فإدراك الحقيقة لم يعد يتطلب المشاهدة الحسية، بل يستلزم من الإنسان أن يتموقع بعقله. هكذا ظهر المركز الجديد الذي سيصبح منطلق وغاية الفكر الحديث، إنه الإنسان، وهذه المرة يستحضر الإنسان بفكره وعقله لا بجسده، لهذا انبنت الحداثة على النظر إلى الإنسان باعتباره أسمى القيم والموجودات قاطبة، فلا شيء في الكون يفوقه عظمة وقيمة وكرامة، وعظمته آتية من أنه الكائن الوحيد الذي استطاع التخلص من سيطرة الطبيعة وتدخل فيها وأجبرها على تلبية حاجاته ومطالبه، لقد تمكن من التفوق على الطبيعة بكل قواها الجبارة والمدمرة، وهذا التفوق مرده إلى قدرته على التفكير.

 هذا ما عبَّر عنه الفيلسوف الفرنسي باسكال بقوله:
ما الإنسان إلا قطعة قصب، وهي أهون ما في الطبيعة، بيد أنه قطعة قصب تفكر، ولا حاجة لأن يهب العالم بأسره لسحقه، فبخار أو قطرة ماء تكفي لقتله، ولكن حتى عندما يسحقه العالم فإنه يظل أنبل ممن يقتله، لأنه يعلم أنه يموت، وأن العالم أقوى منه، أما العالم فلا يعلم عن ذلك شيئًا، فمكانتنا لا تعود إلى الزمان أو المكان اللذين لا نستطيع ملأهما، فلنسع جهدنا إلى أن نفكر جيدًا، ذلك هو مبدأ الأخلاق.

 كان هذا هو إنجاز العصر الحديث، معقولية العلم إذن بنيت على العقل لا على المادة. هذه الثورة العلمية ستجد تجلياتها الواضحة في فلسفة ديكارت التي انطلقت من الشك المنهجي، والذي غايته تحرير العقل من كل الأفكار والأحكام التي يتلقاها من الواقع والتقاليد، وليستعيد زمام السيطرة ويصبح قادرًا على ممارسة مهامه الأساسية التي هي التفكير السليم، وإصدار الأحكام والتمييز بين الحق والباطل. لقد انتهى التطواف الشكي [الذي لم يبق على أي حقيقة] إلى الإقرار بأول يقين صمد أمام سيل الشك الجارف، وهو أن الإنسان كائن مفكر، يتوقف وجوده على ممارسة التفكير بكل أنواعه. كل شيء يعود إلى الإنسان. هكذا أثبت كل من العلم والفلسفة أن الإنسان بفكره أقوى من كل الظواهر والأحكام.

 ستضيف السياسة إلى الإنسان خاصية أخرى تمثل واحدة من دعامات الفكر السياسي الحديث، وهي الحرية، فإلى جانب كون الإنسان كائنًا مفكرًا هو أيضًا حر، مبدأ هذا الفكر هو "يولد كل الناس أحرارًا".
 بهذه الطريقة كان الفكر الأوروبي يجدد نفسه، ولم يكن هذا التجديد ليتم دون العودة إلى الماضي والتاريخ، لقد حاولت العقلانية الحديثة أن تكون عقلانية تأصيلية تسعى إلى تأصيل كل شيء والبحث عن مبادئه في العقل والتفكير. غير أن التأصيل هنا ما كان يتم بغاية العودة إلى التاريخ في حد ذاته، بل غايته فهم التحولات الاجتماعية والسياسية والعلمية والقيمية التي يمر الوعي الأوروبي. وهذا هو ما يلغي عن هذه العقلانية صفة الفكر الماضوي. لقد كانت عقلانية مستقبلية تتطلع إلى المستقبل برؤية استشرافية مصاحبة بالاعتقاد الراسخ في أنه سيكون أفضل من الماضي والحاضر. في خضم هذه التحولات ستظهر فكرة "التقدم"، وهي الفكرة التي فرضت نفسها حتى باتت عنوانًا لما سيعرف لاحقًا باسم عصر الأنوار. 

لقد كانت فكرة التقدم محركًا يدفع الفكر الأنواري إلى غايته التي تتجلى في التحرر من كل النماذج التقليدية والسعي إلى بناء نماذج جديدة تسمح بالتقدم نحو الأفضل.

 يعرف القرن الثامن عشر بأنه قرن التنوير. والتنوير عمل هائل جدًا يتوج جهودًا كبيرة سبق أن بذلت خلال القرنين السادس والسابع عشر، تحقق معها تقدم كبير في ميدان العلوم والمعارف بكل أنواعها، لقد صار من اللازم في القرن الثامن عشر نشر الرصيد المعرفي الهائل بين الناس. وكانت الأنوار الفرنسية هي النموذج الأول داخل أوروبا، ففرنسا هي الدولة الأولى التي تبلورت فيها معالم الحداثة، خاصة بعد الثورة السياسية التي أسقطت نظام الحكم الملكي وقادت البلاد إلى نظام حكم سياسي جديد يتأسس على قيم الديمقراطية والحرية والمساواة وحقوق الإنسان.

 كانت هذه الثورة إيذانًا بالتحول نحو مرحلة جديدة لن تسمح باستمرار النظم الديكتاتورية القديمة الممسكة بالسلطتين الزمنية والروحية، لذا سرعان ما تم الحسم في وضع حدود فاصلة بين مجال الدين الذي ترعاه المؤسسة الدينية دون أن تتعدى سلطتها باب الكنيسة، ومجال الدنيا الذي هو مجال لا يدار إلا وفقًا لإرادة الشعوب ورغباتها. هكذا تحرر المجال العمومي من سلطة الكنيسة وبات مفتوحًا أمام عموم المواطنين للمساهمة في بناء الدولة والتداول في القضايا المصيرية التي تهم الشعب كله.

 وبما أن على الشعب أن يكون فاعلاً في اختيار قراراته وتقرير مصيره فالواجب المفروض هو انتشاله من عالم الجهل الذي أبقته فيه عقود من سياسة التبليد [من البلادة] المقصودة، إلى عالم المعرفة والعلم. [هذا ما تحتاجه الشعوب العربية التي أسقطت أنظمتها الديكتاتورية كالشعب المصري العظيم، يجب أن يفهم الناس أن الثورة لن تغير كل شيء بسرعة، لأنها لا تملك خاتم سليمان السحري، ستحتاج إلى مسار طويل، ودور المثقفين والأكاديميين اليوم أن يقوموا بتوعية الجماهير وتنبيهها]. لا بد أن يتعرف الناس على الهموم الكبرى التي تنتظرهم وينشغلوا بها. استجابة لهذا المطلب سيعمل مفكرو الأنوار على إنجاز ما سمي بالموسوعة المعرفية الكبرى [الأنسكلوبيديا] التي كانت موجهة إلى الجمهور العريض من عامة الناس. 

كانت هذه الموسوعة عملاً جبارًا ساهم فيه العلماء والفلاسفة والأدباء والفنانون والسياسيون...، لقد استطاع رجال التنوير عبر موسوعتهم ردم الهوة القديمة بين النخبة المفكرة وعامة الناس، وهي الهوة التي كان يتم استغلالها لإبقاء الفكر حكرًا على الخاصة فقط، وذلك لتبرير قيادتها للعامة واستغلالهم وإقصائهم عن المشاركة في تقرير المصير والحكم بدعوى قصورهم عن النهوض بأمور السياسة والسلطة، والتي تقتضي المعرفة والعلم، وهذا ما ينقص العامة.

 مع بزوغ فجر الحداثة سيسقط هذا التمييز، وستنهار معه كل أنواع التمييز الأخرى والتي كانت تقوم على وجود منازل مختلفة للإنسان. كان مفهوم الإنسان ممزقًا ومتصدعًا بين الرجل والمرأة، السيد والعبد، النبيل والقن، المتحضر والبربري...، سيستعيد هذا المفهوم تماسكه ووحدته مع رائد الفلسفة الحديثة، رينيه ديكارت القائل "العقل نور فطري إلهي، وهو أعدل الأشياء قسمة بين الناس".

 إن مقدار العقل في نظر ديكارت وزعته الطبيعة بعدل، فكل الناس أوتوا منه الكفاية بحيث لا يفضل أحدهم نصيب الآخر منه. دلالة هذا القول أن كل أشكال التمييز القائمة بين الناس هي من خلقهم وليس الطبيعة، وإذا كانت الطبيعة لم تفرق فليس من حق الإنسان أن يفرق، الجميع سواء، والمساواة كفكرة خرجت من رحم الفكر النظري قبل أن تنتقل إلى عالم السياسة وتتخذ لباسًا عمليًا. هكذا وصلت الحداثة إلى مفهوم الإنسان الكوني، فكان أن تأتى لها الحديث عن حقوقه وواجباته وأدواره ومهامه [أما في العالم العربي فلا يزال التمييز اللغوي والعرقي وخاصة الطائفي والمذهبي ينخر جسد الأمة العربية. سنحتاج إلى ثورة فكرية تجتث هذه العقلية لتتغير المسلكيات، وهو مطلب لا يمكن أن تغيره الثورات السياسية والعسكرية].

 كان لدى مفكري الأنوار اقتناع تام بضرورة تنوير الجمهور والارتقاء به ليعيش أجواء التحولات الهامة والخطيرة التي يمر بها. ولتحقيق هذه الغاية عمل الموسوعيون على نقل وتبسيط الثورات العلمية لتصبح في متناول عموم الناس، فإذا كانت الثورات تحدث أولاً على مستوى العلم النظري، وإذا كان هذا الأخير يتكلم لغة رمزية رياضية صناعية، فإن تحويل هذه اللغة إلى طبيعية يفهمها الجميع، هو عمل الفلاسفة والأدباء [وهذا ما نحتاجه اليوم].
 لقد أثبت رجال الموسوعة أن العلم النظري لا ينعزل عن هموم الناس ومشاكل حياتهم، بل ينشغل بها ولصالحها، وما دام كلُّ كشف علمي يغير نظرة الإنسان إلى ذاته وإلى العالم، فإن إيصال نتائج وآثار تلك الثورات العلمية إلى عامة الناس هو عمل تتوحد فيه كل المشارب الفكرية، وهكذا أيضًا يصبح بينها خيط ناظم يوجهها لخدمة غاية واحدة، لذا لا نندهش من حجم الثورة الفكرية والحضارية والإنسانية التي شهدتها فرنسا في العصر الحديث.

 من خلال ما سبق يظهر لنا وعي الفلاسفة والمفكرين والسياسيين [الموسوعيين الفرنسيين] أنَّ الثورات السياسية لا تكتمل ولا تقود إلى تغيير جذري ما لم توازها ثورات فكرية تغير أنماط التفكير وتحدث نقلة نوعية في طبيعة الاهتمامات التي تفرض نفسها وكذا طرق التعاطي معها. ينبغي استلهام هذا الدرس التاريخي من طرف الشباب الغربي، يجب أن يعمل الشباب العربي اليوم على ترتيب الأولويات وفهم الشروط الجديدة. تغيير أنظمة الحكم ليس إلا مجرد بداية لعمل جاد وطويل لتغيير حقيقي هو الذي سيظهر أثره في الواقع اليومي.

 كانت الأنوار الفرنسية متحمسة لذاتها، وكان أغلب رجالاتها مسيسين منخرطين في قلب الصراع السياسي [فولتير، روسو، ديدرو...]، ، لقد عايشوا الثورة الفرنسية ونتائجها الكبيرة، ولهذا دافعوا عنها بحماسة منقطعة. عكسها كانت الأنوار الألمانية مرنة ومنفتحة، ولم تدع إلى الثورة ولم يكن رجالها منخرطين في حركات سياسية [كانط مثلاً]، كانوا مثقفين وجامعيين. توجهت الأنوار الألمانية إلى ميدان الفكر، وذلك لوعيها العميق بأن أي تغيير ممكن يجب أن ينطلق من ميدان الفكر وطرق اشتغال العقل البشري، ولهذا لن يتوجه مطلب التحرر الأول إلى أي سلطة خارجية، بل إلى العقل أولاً. لا بد من اجتثاث أنماط التفكير القديمة وإعداد العقل للعمل وفقًا لأطر جديدة تستجيب لحاجات وشروط المرحلة. على العقل أن يتحرر من كل الأوهام والأحكام المسبقة التي يحملها في ذاته أولاً [استلهام الشك الديكارتي]، قبل أن يتحول إلى فحص بقية المجالات الأخرى لتطهيرها من مختلف المعتقدات والتقاليد التي لم يبق هناك مبرر للاحتفاظ بها، وهذا هو ما يعبر عنه إيمانويل كانط بالنقد.

 لا يمكن الحديث عن فلسفات الأنوار دون التوقف عند كانط، فمعه تحقق تتويج الحداثة في مختلف الميادين الفكرية، لقد كان صاحب نسق فلسفي ضخم حاول فيه أن يوجه تفكيره لخدمة غاية واحدة هي الأخلاق. لا تظهر قيمة فلسفة كانط في ميدان المعرفة، لأن جدته ظهرت في ميدان الأخلاق. لقد كانت فلسفته الأخلاقية استجابة لروح الفكر الأنواري، لهذا اخترته نموذجًا للحديث عن نظرية في التربية تخضع لمبادئ نسقه الفلسفي أولاً وتخدم فكر التنوير ثانية.

 لم يكن النقد مجرد عنوان لمؤلفات كانط الأساسية، بل هو في نظره عنوان لعصر بأكمله، لهذا يطلق على عصره اسم عصر النقد. في هذا الصدد يقول:
إن عصرنا هذا هو عصر النقد الذي ينبغي أن يخضع له كل شيء، يريد الدين بجلاله والتشريع بقدسيته أن يتملصا منه، لكنهما يثيران بذلك شبهات مشروعة ضدهما، ولا يمكنهما أن يطمحا إلى تحقيق احترام العقل الذي لا يمنحه إلا لمن يجتاز اختباره الحر والعلني.

 هكذا يحدد كانط المهمة الكبرى للنقد، والتي تتجلى في أن يخضع كلا من التشريع السياسي والممارسة الدينية للنقد العقلي، أي أن العقل بات قوة عليا لا تعلو عليها سلطة أخرى. وهذه السلطة التي يملكها العقل تفرض على كل مجال أن يتوقف عن تقديم نفسه كبداهات لا تقبل النقاش والتغيير، فلا شيء يعلو على المساءلة العقلية. ولكن، من أين استحق العقل هذه الصلاحية؟ من الذي منحه حق فحص المجالات الأخرى؟ لقد اكتسب هذا الحق بعد نقده أولاً لذاته، ونقد العقل هنا لا يعني تحطيم أو تهفيت العقل، بل يعني عودته إلى ذاتها لمعرفة قدراته وإمكانياته الحقيقية، وهذا ما يعبر عنه كانط بمحاكمة العقل لذاته.

لقد انتهت هذه المحاكمة العلنية إلى تحديد إمكاناته ومبادئه التي يشتغل بها، وحدود نجاعة استعمال تلك المبادئ، وهذا هو موضوع نقد العقل النظري. لقد بيَّن كانط أن العقل في استعماله النظري لا يملك صلاحية الخوض في كل المواضيع ومعرفتها والبرهنة عليها، بل إن ما يستطيع معرفته محدود بعالم الظواهر الطبيعية [الفينومين] حيث تشتغل حساسيته ومقولات فهمه، وكلما حاول معرفة ما يتجاوز عالم الظواهر لن ينتج إلا التناقضات والأوهام. وظيفة النقد هنا تحرير العقل من الأوهام والمشاكل التي تنبع منه هو ذاته كلما حاول تجاوز عالم الظواهر ومعرفة ما لا يمكنه بطبيعته معرفته.

 يؤكد كانط أن استعمال العقل لا يتم بطريقة واحدة في كل المواضيع، فهناك استعمال نظري وآخر عملي وآخر جمالي وآخر غائي...، وفي كل استعمال هناك قواعد، غير أن أهم شيء في الحياة الاجتماعية والعملية هو القدرة على إصدار الأحكام واتخاذ القرارات، غير أن هذه القدرة تعاني من عدة أنواع القصور تخنقها وتحول بينها وبين التبلور، ووظيفة الأنوار تتجلى في ضرورة تحرير العقل من كل أنواع القصور التي يعانيها، لهذا يعتبر كانط أن الأنوار ليست لحظة زمانية متجسدة بعينها، ولا هي بعقيدة يتوجب اعتناقها، إنها مسار تربوي طويل لا حدود له، إنه لا يعرف النهاية.

 في نصه ما هي الأنوار يعرف كانط الأنوار بأنها "خروج الإنسان من حالة القصور الذاتي الذي يعد هو بذاته مسؤولا عنه"، والقصور هنا يعني عجز الإنسان عن استعمال عقله دون قيادة وتوجيه الغير، والسبب في ذلك لا يعود إلى نقص في العقل، وإنما إلى جبن الإنسان وخوفه من استعمال عقله بكل حرية. هكذا تكون الأنوار دعوة لكل إنسان إلى أن يعمل بشكل مستمر على رفع كل أشكال الوصاية عن نفسه، طالما أن لا أحد يفرض عليه القبول بتلك الوصايات إلا خوفه من استعمال عقله، لذلك كان شعار الأنوار هو "تجرأ على استخدام فهمك الخاص".

 غير أن بلوغ الإنسان لحظة الأنوار الحق أمر لا يتوقف على إرادته الخاصة فحسب، بل إنها مسار تربوي طويل، والتربية هنا ليست مجهودًا فرديًا خاصًا، ولا تتوجه للفرد وحده، بل يتعلق الأمر بتربية تهم الإنسانية جمعاء، [فكر كانط ينحو نحو ما هو كوني في كل شيء]. في مقاله تأملات في التربية يعتبر كانط أن التربية التي تستجيب لعصر الأنوار ليست خطوات بسيطة يكفل اتباعها بلوغ الغاية المرجوة سريعًا، لأن ما تنشده ليس شيئًا سهلاً، إنها سيرورة طويلة تبتغي الوصول إلى لحظة "الأخلاقية" حيث يكون الإنسان فد تحرر من كل الانفعالات والدوافع الذاتية أولاً ومن كل السلط الخارجية ثانيًا، وأصبح حرًا بحيث لا يخضع لأي سلطة عدا سلطة إرادته الطيبة. إنها سعي إلى الكمال الأخلاقي الذي لا يمكن للأفراد تحقيقه. لهذا يتحدث كانط عن فكرة "الأخلاقية" كفكرة ترسم مسبقًا مسار التربية البشرية التي تتوجه إليها باعتبارها غاية النوع الإنساني ككل وليس الأفراد فقط. يتطور فن التربية ويربو من خلال نقل كل جيل لمكتسباته وإرثه الفكري والفني والعلمي والحضاري إلى الجيل الذي يليه، وهذا الأخير يتلقاه ويضيف إليه مكتسبات جديدة، والأجيال اللاحقة تكون أكثر قدرة على إرساء تربية إنسانية ترمي إلى تقدم وتطور النوع الإنساني كله نحو نموذج الكمال.

 وبما أن الإنسان في نظر كانط لا يستطيع لوحده أن يفهم غاية التربية [بلوغ الأخلاق] ويقصدها في كل سلوك أو ممارسة، فقد "رأت العناية الإلهية أن يضطر إلى أن يطلب الكمال الأخلاقي في ذاته واعتمادًا عليها"، [العودة إلى الذات كشعار للحداثة]، ولذلك وهبته مجموعة من الاستعدادات الطبيعية التي ستقوده نحو الخير، غير أن هذه الاستعدادات لا تزال في حالة كمون، وهي غير متحققة ولا مكتملة، وواجب الإنسان أن يعمل على تنميتها وتطويرها بما يفتح المجال أمام تحققها وتفتحها النهائي [الأنوار]، وهذا ما تتغياه التربية، "فالأنوار تتوقف على التربية، كما أن التربية بدورها تقصد الأنوار".

 لقد كانت الطبيعة شحيحة مع الإنسان عندما لم تهبه كل ما يحتاج إليه لضمان استمرار نوعه وتقدمه كما فعلت مع الحيوان، وهي فعلت هذا الأمر عمدًا، وذلك بغاية دفع الإنسان إلى الاعتماد على ذاته وعقله الخاص. يقوم فن التربية على النظر والتفكير في الغايات الكبرى للنوع الإنساني ككل، وهدف هذا الفن هو استشراف آفاق النوع الإنساني مستقبلاً، بحيث لا تبقى الأجيال القادمة حبيسة ما خلفته الأجيال السابقة، بل تغنيها بتجاربها وعلومها وفنونها... من هذا المنطلق يشير كانط إلى أن تربية الأطفال يجب ألا تتم بحسب حالة النوع البشري الراهنة، بل بحسب الحالات الممكنة التي قد تكون أفضل من الوضع الراهن. والموجه لاستشراف كل حالة هو الغاية الكبرى للإنسانية جمعاء، وهذا مبدأ على المربين احترامه واستحضاره دومًا، إذ من المعتاد أن يربي الآباء أبناءهم بهدف تكييفهم وفقًا لمقتضيات الوضع الراهن مهما كان فاسدًا، وما يهمهم هنا هو النجاح فقط، وفي سبيل تحقيق غاية ضيقة صغيرة يتم تناسي غاية الإنسانية التي تمثل خيرًا أسمى لكل البشر.

 وهنا يؤكد كانط أن تحقق هذا الخير الأسمى للبشر رهين بتفتح الاستعدادات التي وضعتها العناية الإلهية في الإنسان، كما أن استحضار واحترام الأفراد للغايات الكبرى للإنسانية لا يلغي غاياتهم الخاصة ولا يتعارض معها، لأن تلك الاستعدادات المودعة في طبيعة الإنسان لا تتوفر على أدنى مقدار من الشر، فلا استعداد فيها إلا من أجل الخير.
 إن تربية الإنسانية على ما فيه الخير العام للإنسانية يجب أن يكون غاية توجه كل مشروع تربوي، غير أن التربية كممارسة داخل الميدان العمومي تفرض التساؤل حول دور السلطة السياسية في مسار التربية، إذ من المعروف أن الأمراء لا يرون في مواطنيهم إلا مجرد أدوات لتحقيق غاياتهم وأغراضهم الخاصة. فإذا كان الوالدان لا يهتمان إلا لنجاح أبنائهما وتكيفهما مع الواقع مهما كان هذا الواقع فاسدًا، وإذا كان الأمراء لا يرون في رعيتهم إلا أدوات تحقق غاياتهم الخاصة، فإن كلا نوعي التربية يلغيان الهدف الأسمى لها، وهو خير الإنسانية جمعاء لا خير الأفراد.

 والسؤال المفروض الآن، ممن ينبغي انتظار حالة أفضل للعالم، من الرعية أم من الأمير؟ يجيب كانط أن الإصلاح يجب أن يكون شاملاً، لكنه يشير إلى أهمية أن يبدأ الإصلاح من الأمراء الذين يجب أن يخضعوا لتربية صارمة منذ حداثتهم، تدفعهم إلى إيثار الخير العام والسعي إلى تحقيق الغايات الإنسانية العليا، وأهمها دفع الناس إلى مرحلة الأخلاقية التي تلغي كل الدوافع والميول الأنانية لصالح أخلاق الواجب التي دافعها الإرادة الطيبة فقط.

 يقر كانط بأن نظرية حول التربية تبقى مثلاً أعلى يصعب تحقيقه فعليًا، لكن هذا لا يعد سببًا كافيًا لاستبعاده ونعته بالخيالي، فالمثل الأعلى هو فكرة حقيقية لم تجد بعد طريقها إلى التحقق. وفكرة تربية تنمي الاستعدادات الطبيعية الكامنة في الإنسان هي بالتأكيد فكرة صادقة، وإذا كان كل الناس يكذبون، أيكون الصدق بسبب ذلك مجرد وهم، بالتأكيد كلا. فما هي الطريقة التي عبرها تتم هذه التربية؟
يعتبر كانط أن هذه التربية تمر عبر عدة مراحل توجهها جميعًا غاية بلوغ مرحلة الأخلاقية وهي:

  1 . الضبط: تمثل هذه اللحظة بداية مسار التربية، وغايتها الحيلولة دون أن تؤدي الحيوانية الأولى إلى فقدان الإنسانية في الأفراد أو في الإنسانية جمعاء، فالضبط ترويض للتوحش الأصلي للإنسان.
  2 . التثقيف: على كل إنسان أن يكون مثقفًا، لأن الثقافة هي التي توجد المهارة، وهذه الأخيرة هي امتلاك القدرة على تحقيق غايات ما، فهناك مهارات حسنة في ذاتها كما هو حال القراءة والكتابة، وأخرى تمكن من بلوغ مآرب إنسانية أخرى.
  3 . التحضر: على كل فرد أن يكون متكيفًا مع المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه، وأن يكون فاعلاً ومؤثرًا فيه، أي أن يكون متمدنًا يساهم في بناء الحضارة الإنسانية التي هو جزء منها، وأن يكون متمدنًا معناه أن يمتلك آداب الممارسة والسلوك المهذب التي تميز مرحلة التمدن.
  4 . التخليق: هي مقصد المراحل الثلاث الأولى، فلا بد من الحرص على التنشئة الأخلاقية، إذ ليس كافيًا أن يكون الإنسان مؤهلاً وقادرًا على القيام بكل أنواع المهارات وبلوغ الغايات، بل الواجب أن يمتلك إحساسًا يجعله لا يختار إلا الغايات الحسنة التي يتبناها كل شخص، ويمكن في نفس الوقت أن تكون غايات كل إنسان.
 تعد مرحلة الأخلاقية تتويجًا للمسار التربوي الكانطي، لأنها لا يمكن أن تتحقق لدى الفرد، بل هي غاية للنوع الإنساني ككل، وأمر تحقيقها يبقى فكرة منظمة فقط ولا يمكن بلوغها نهائيًا، كما لا يمكن التحقق من ما إذا كان النوع الإنساني قد بلغها، إذ من الممكن أن يرغم الإنسان بقوة القانون والسلطة على أن يكون كائنًا مدنيًا، لأن الإلزام هنا خارجي ظاهر، لكن يستحيل إلزامه على أن يكون كائنًا أخلاقيًا، لأنه لا يمكن التحقق من مصدر السلوك الإنساني حتى لو كان أخلاقيًا، لأن إلزام الفعل الأخلاقي نابع من الإرادة الطيبة، فهو إلزام داخلي لا خارجي. إن بلوغ هذه اللحظة يقتضي أولاً تفتح الاستعدادات الطبيعية كاملة، لأنه بتفتحها يتحقق الخير الأسمى. فما هي الكيفية التي تتفتح عبرها هذه الاستعدادات؟.

 يعتبر كانط أن تفتح الاستعدادات الكامنة في الإنسان أمر لا يتوقف على الإنسان فقط، بل إن الطبيعة تتدخل لتدفعه إلى ذلك، والوسيلة التي تلجأ إليها هي أنانية الناس، وعبر تحريكها تدفع الناس إلى الصراع، إذ أن الإنسان بالرغم من ميل الإنسان إلى الاجتماع مع الناس، إلا أن هذا الميل يبقى مقترنًا دومًا بنزوع طبيعي يدفع في اتجاه التفرد والسيطرة على الآخرين، مما يهدد كل إمكانية لقيام مجتمع إنساني.

 يضمن وجود المجتمع للأفراد سلمًا وأمنًا يوفران هامشًا لتطوير الاستعدادات الطبيعية، وهذا يدفع الناس نحو الميل إليه، إلا أن الإنسان في الوقت نفسه نزاع إلى أن يوجه الأشياء حسب فهمه الخاص، وأن يستثني نفسه من الخضوع للقانون، لذا فهو ينتظر مقاومة من الآخرين وردود أفعالهم عليه. وهنا تظهر حكمة الطبيعة، لقد أنشأت بين الناس علاقات تجعلهم متوقفين على بعضهم بعضًا، ما دام الفرد لا يكفي نفسه بنفسه، لكنها في الآن ذاته استخدمت أنانيتهم ومحبة كل فرد لمصلحته الخاصة لتدفعهم إلى الصراع فيما بينهم.

 من الواضح أن أنانية الناس وصراعاتهم ستكون لها آثار سلبية على حياة الناس، إذ لولاها لعاشوا في سلام وأمان ووئام، ولما واجهوا كل الآثار الناجمة عن الحرب والصراع، غير أن هذه الأنانية أيضًا تلعب دورًا حاسمًا في تطور استعداداتهم وتفتحها، فالتنافس هو الذي يوقظ في كل إنسان ميله الغريزي نحو التفرد، وتدفعه إلى تجاوز الكسل والجبن وبذل المجهود، فلولا هذه الأنانية لما تطورت البشرية ولما وجدت الحضارات، ولبقيت مواهب الناس مطمورة ولما تفتح أي استعداد، فهي سر إبداع كل الإرث الحضاري والثقافي الإنساني. إن أنانية الأفراد تؤدي إلى خلق نوع من التنافس بينهم مما يدفعهم إلى تطوير وشحذ قدراتهم من أجل التفوق على الآخرين. غير أن هذا التنافس يؤدي في الوقت نفسه إلى إشعال نار الفتنة والصراع بين الأفراد إذا ظل غير مقيد، نحن أمام دافع مهم وضروري لتقدم البشرية، وهو في الآن نفسه يهددها بالتدمير ما دام يقود للصراع.

 حلاً لهذه المفارقة يشير كانط إلى أن الإبقاء على التنافس الضروري للتطور وتفتح الاستعدادات الطبيعية دون أن ينتهي إلى الحرب، يتوقف على إنشاء مجتمع مدني يخضع لنظام حقوقي يقيد حرية كل فرد حسب قوانين عامة بشكل يجعلها لا تمس حرية الآخرين، ذلك لأنه إذا كان مباحًا للذات أن تفعل كل ما تريد دون شروط، فهذا يعني ضمنيًا إلغاء إمكانيات الفعل لدى بقية الناس. لذا لا بد من تقييد إمكانيات الفعل لدى جميع الناس دون استثناء وفقًا لمبادئ الحق، فالحق يمثل معيارًا تقبل القوانين التي لا تلغيه وترفض تلك التي لا تتوافق معه.

 في المجتمع المدني يتوفر المجال العمومي الذي يسمح للجميع أن يتصرفوا بحرية وأن يطوروا استعداداتهم، إنه الذي يضمن لكل مواطن فيه هذه الحرية. يبدو المجتمع المدني كما لو كان يقيد الحرية عبر القوانين، لكنه في الواقع يفتح مجالاً واسعًا من الحرية يسمح للجميع بتطوير استعداداتهم دون وجود أي نوع من أنواع التوتر والصراع، وبالتالي فهو الضمانة الوحيدة لحياة يسودها السلام والأمن والتطور والتقدم، ولهذا فإن بلوغ هذا المجتمع يمثل مطلبًا ضروريًا لكل التربية، وهو لحظة التمدين. إن سيادة فكر الأنانية والميل إلى تحقيق المصلحة الذاتية لا ينتهي إلا عبر ثالوث الضبط والتثقيف والتمدين، وهنا تكون غاية التربية تهذيب الغرائز المتوحشة.

 يتوقف عمل الطبيعة عندما تدفع الناس إلى تأسيس مجتمع مدني يمكن من فتح المجال أمام تطور الاستعدادات الكامنة في الإنسان، وذلك عبر تحريك أنانية الناس ودفعهم إلى الحرب، وهنا يكون الإلزام خارجيًا من طرف الطبيعة، لكن عملها يتوقف هنا، إذ لا تستطيع إلزام الإنسان لأن يكون كائنًا أخلاقيًا، لكن وجود مجتمع مدني يسمح بتفتح الاستعدادات يعد خطوة هامة نحو التخليق، إذ من جملة هذه الاستعدادات واحد منها يتعلق باستعمال العقل، وهذا الاستعمال يتوقف على الإنسان ذاته، وهنا يبدأ عمل العقل الذي عليه أن يكمل مسار التربية من أجل تحقيق التخليق.

 إن مسلسل التطور التاريخي الذي أطلقته الطبيعة لا يعرف النهاية إلا ببلوغ الإنسانية إلى مرحلة الكمال الأخلاقي، وهذا لن يتأتى إلا بانتزاع العقل ذاته من كل أشكال الوصاية الخارجية التي ما زال يقبل البقاء فيها. إن أعظم وصاية واجهها الإنسان هي تلك التي مارستها عليه الطبيعة، عندما جعلته يخضع طويلاً لدوافع ومطالب الغريزة، ودفعته عبرها إلى خلق مجتمع مدني سمح لاستعداده الأساسي أن يتفجر. يتعلق الأمر بظهور العقل وامتلاك الإنسان للقدرة على التفكير والفحص. ومع ظهور العقل ارتفعت وصاية الطبيعة عنه وتركته لوحده ليتحمل مسؤوليته بعد أن هدته إلى سبيل الرقي والتقدم والتطور. لقد آن الأوان ليتخلص من قصوره الذاتي، والذي يسببه خوفه من استعمال العقل بكل حرية، وهذا ما يعبر عنه كانط بقوله:

 إن الكسل والجبن هما السببان في أن عددًا كبيرًا جدًا من الناس يفضلون البقاء قاصرين طوال حياتهم بعد أن تكون الطبيعة قد حررتهم منذ أمد بعيد.
 إن من يفضلون حالة الوصاية ينزعون باختيارهم إلى توكيل الآخرين للتفكير والتقرير بدلاً منهم، ومع مرور الوقت يستعذبون هذه الحياة إلى درجة يصبح التفكير في تجاوزها أمر خطير بالنسبة لهم، لهذا يشبههم كانط بمن يوضع منذ نعومة أظافره داخل عربة ويحبس داخلها بحيث يحال بينه وبين محاولة مغادرتها والمشي اعتمادًا على نفسه دون مساعدة الغير وقيادته، ومن يقوم بقيادته يهول عليه أمر مغادرتها بدعوى أنه لن يستطيع المشي لوحده، وهو في حاجة ضرورية له، ولهذا يبقى خائفًا من محاولة مغادرة العربة، غير مدرك أن خطر مغادرتها أهون من البقاء فيها، لأنه سيتعلم المشي بعد أن يكون قد سقط بضع مرات، وهذا يقال على استعمال العقل، فما على الفرد إلا أن يتجرأ على استخدام عقله لوحده، قد يخطئ في بعض الأحكام، لكنه سيتعلم من ذلك.
في نصه حول الأنوار يتساءل كانط:
هل نعيش حاليًا عصرًا أنواريًا، والجواب كلا. نحن نعيش في عصر يسير نحو الأنوار، وما زال يلزمنا الكثير حتى يستطيع الناس استعمال عقولهم دون توجيه وإرشاد من الغير.
 وهو نفس الأمر الذي يثيره في نصه حول التربية بقوله:
إننا نعيش عصرًا يتميز بالانضباط والثقافة والحضارة، لكننا لا نعيش عصرًا يتسم بالخلقية
وهنا يؤكد كانط على أن البشرية اليوم [في عهده] تعيش لحظة فارقة ما دام أن المجال بات مفتوحًا أمام حرية الاستعمال العمومي للعقل، والعوائق التي كانت تحول دون خروج الإنسان من حالة القصور الذاتي باتت تتقلص تدريجيًا. وأهم عائق ما زال يعرقل مسار التربية التنويرية داخلي لا خارجي، يتعلق الأمر هنا بتخلي الأفراد عن الجبن والخوف من استعمال العقل والمعرفة بحقيقة إمكانياته وحدوده أيضًا. لقد استطاع العقل التحرر من الضرورة الطبيعية التي يخضع لها في استعماله النظري، والتي يلزم فيها بالبقاء داخل عالم الظواهر فقط، لأن محاولة معرفة ما يوجد خارج هذا العالم تعني إنتاجه للتناقضات والأوهام والمغالطات، ليصبح في استعماله العملي مشرعًا للقوانين الأخلاقية.

  أخيرًا نخلص إلى أن التربية كما صاغها كانط تسعى لبلوغ غايتين تخدم إحداهما الأخرى، تتجسد الغاية الأولى في تحرر الإنسان من كل أنواع الدوافع والغرائز الطبيعية التي تبقيه ضمن دائرة الحيوانية، وبالتالي استعادة العقل لزمام السيطرة والتحكم في الإنسان، وامتلاك هذا الأخير للقدرة على اتخاذ القرار السليم والتقرير في المصير دون تدخل الأهواء والانفعالات أولاً، أو أي سلطة خارجية ثانيًا، لكن تحرر العقل ليس إلا جزءًا من مسلسل طويل على العقل أن يمر به من أجل تحقيق غاية الإنسانية الكبرى، وهي قيادتها نحو الاقتراب من الكمال الأخلاقي. ما ينفك كانط يعترف في كل مرة أن تحقق الفعل الأخلاقي بكل شروطه يتطلب ملاكًا لا إنسانًا، ما دام الإنسان لا يستطيع التحرر نهائيًا من كل الميول والعواطف والمشاعر. لكن كانط يعتبر أن عدم تحقق الفكرة كاملة لا يلغي أهميتها وقيمتها العملية، يجب أن يجعل بنو الإنسان من بلوغ لحظة التخليق غاية ينشدون بلوغها في كل أفعالهم، قد لا يحققونها كاملة، لكنهم يقتربون منها، وكلما اقتربوا منها كلما ارتقوا أخلاقيًا. إن نظرة كانط التربوية تندرج في سياق حداثي سيطرت عليه فكرة التقدم والتطور، بحيث فرضت نفسها في كل الميادين، ولهذا كانت فلسفة كانط التربوية تستجيب لعصر التنوير.

بقلم : عاصم منادي إدريسي

أضف تعليق


كود امني
تحديث