يرى العديد من علماء النفس، ومن بينهم "جان بياجيه" أن اللغة وثيقة الصلة بالفكر، فاللغة ليست تعبيرا لاحقا للفكر ورداء له، وإنما هي جسمه وكيانه، فالعاطل عن التفكير عاطل عن اللغة، إذ الفكر يتكون في نظر هؤلاء السيكولوجيين من الكلمات والتعابير اللغوية.
ولقد كان "واطسون" رائد علم النفس السلوكي يرى أن التفكير ليس سوى كلاما ولغة صامتة، كما كان عالم الاجتماع الألماني كارل ماركس يرى أن "اللغة حصن للتفكير" فاللغة والفكر يدخلان إذن في علاقة جدلية، فإذا ضعف أحدهما انعكس على الآخر. وتبعا إلى ذلك فإن اللغة ليست أداة تفاهم وتواصل فحسب، وإنما هي أيضا أداة تفكير وتأمل، فالإنسان يفكر ليتكلم، لذا عليه أن يستوعب رموز اللغة ودلالاتها الخاصة حتى يستطيع الاستجابة لكل الظواهر الاجتماعية والطبيعية التي تحيط به. ومن ثمة فإن اللغة ذات وظيفة مزدوجة في نظر «بول ريكور" ، فبواسطتها يفهم الإنسان ذاته وعالمه. إننا نستعمل اللغة في مناسبات وسياقات يومية عديد، بحيث لا يمكننا الاستغناء عنها سواء في التعبير عن آرائنا ومشاعرنا ومناجاة أنفسنا، أو في وصف الأشياء والأحداث المحيطة بنا أو في التواصل مع الآخرين، أو خلال القراءة والكتابة. إن الكائن البشري على حد تعبير الفيلسوف الوجودي "مارتن هيدجر" يتكلم. وهو يتكلم في حالة اليقظة وفي الحلم.

 إذن نحن نتكلم باستمرار حتى عندما لا نتفوه بأي كلام، وحين نكون منصرفين إلى الاستماع أو القراءة. وإلى مثل هذا الرأي الذي يربط اللغة بالفكر تذهب أيضا "جوليا كريستيفا" التي تقول بوحدة اللغة والفكر فاللغة سلسلة من الأصوات المتمفصلة، ولكنها أيضا سلسلة من الدلائل المكتوبة أو نظام حركات. وهذه الصفة المادية للغة، المنطوقة والمكتوبة أو الحركية تنتج ما نسميه فكرا، وتعبر عنه في آن واحد. بمعنى أن اللغة تمثل حقيقة الفكر وتحققه، بل إنها الشكل الوحيد لوجوده...وعلاوة على أن الخطاب الصامت يستعير هو أيضا، في متاهته، شبكة اللغة، ولا يستطيع الاستغناء عنها، فإنه يبدو اليوم أنه من المستحيل إثبات وجود فكر خارج اللغة ما دمنا في المجال المادي".
وهناك من الباحثين من يرى استقلال الفكر عن اللغة؛ فالفكر في نظر هذا الاتجاه" نسق من المعاني المجردة، ونقل هذا النسق المعنوي إلى الغير بواسطة الألفاظ، لا يجعل لهذه الألفاظ تأثيرا في هذه المضامين المعنوية، ولا يورثها تغييرا لوصفها التجريدي، وإنما قصارى الألفاظ أن تنزل من هذه المعاني منزلة أصوات تبلغها إلى المسامع، أو منزلة حروف تجلب لها الأنظار. وهذا يعني أن لباس النطق لا توجبه إلا ضرورة السمع كما أن لباس الكتابة لا توجبه غلا ضرورة السمع كما أن لباس الكتابة لا توجبه إلا ضرورة النظر. أما الفكر الذي يرتدي هذين اللباسين، فإنه يبقى في ذاته غير منفعل بهما ومستقل عنهما، حتى إن ماهيته لا تدرك في كمالها إلا بتجريده منهما بفضل إعمال العقل".
ومهما كانت العلاقة بين اللغة و الفكر مرتبطة أو مستقلة بشكل ما من الأشكال، فقد بينت الدراسات التي أجريت على الأطفال " المتوحشين " الذين عثر عليهم في الغابات و نشأوا في أحضان بعض الحيوانات، كما هو الحال مثلا بالنسبة إلى الطفل " فيكتور" victor الذي عثر عليه في غابة " لا فيرون بفرنسا، وقام إيتارد بمحاولة لإعادة تربيته، بعد أن حرم من الوسط الاجتماعي الذي يمنحه لغة التواصل البشري وأدى هذا الحرمان اللغوي في الطفولة المبكرة إلى تخلف عقلي لم تستطع كل الجهود التي بذلت تعويضه.
 إن الكلمات اللغوية تعتبر بدون شك، مفاتيح النمو الذهني، لذلك فإن الذكاء يحتاج إلى التفاعل الإنسانين فهو ظاهرة تفاعلية، ومن ثمة فإن غياب التغذية الوجدانية أو العاطفية بالنسبة إلى الطفل في السنوات المبكرة، و المتمثلة في التفاعل الأسري الذي يمده بالحنان والدفء ويوقظ مشاعره واهتماماته الحسية والحركية وتوظيفها في إطار الثقافة الإنسانية المعتمدة على الرموز اللغوية، من شأنه أن يؤدي الى تخلف عقلي من الصعب تداركه، كما أكدت ذلك العديد من الأبحاث وخاصة تلك التي قام بها "سبيتز".
 وإذا كانت معالجة المعلومات والمعارف تكاد تكون متشابهة لدى الإنسان، فإن عملية بنينه المعلومات والمعارف وتنظيمها يختلف باختلاف أساليب التعلم والتعليم التي درب عليها المتعلم منذ السنوات المبكرة من حياته، وهذا ما يدعى في علم النفس المعرفي "أسلوب التعلم" الذي يميز المتعلمين فيما بينهم، ويجعل كل واحد يعالج المعلومات بطريقته الخاصة. وفضلا عن ذلك ، فإن لكل لغة بنيات ذهنية مختلفة عن غيرها من اللغات، وتستدعي لدى مستعمليها تصورات وتمثلات متميزة، مما يجعل ترجمتها إلى لغة أخرى متعذرا. ولبيان ذلك، فإن طريقة تصور الطفل الياباني للمعلومات واستيعابه لها تختلف عن الطريقة التي يستخدمها الطفل الاوروبي، مثلما تختلف عن الطريقة التي يوظفها الطفل العربي، فكل لغة لها حمولتها الثقافية وبنياتها الذهنية التي تؤثر في طريقة تمثل المعلومات وتخزينها.
إن العديد من الدراسات العلمية للغة، قام بها ولا يزال علماء اللغة، وعلماء البيولوجيا العصبية، وعلماء الأعصاب، ركزت اهتمامها على علاقة اللغة بالخلايا العصبية، من جهة، وعلاقة هذه الأخيرة بالبنيات الذهنية للفرد خلال تعلمه لإحدى اللغات أو أكثر. ولقد بينت نتائجها ارتباط اللغة التي يكتسبها الشخص ببنياته الذهنية وبجهازه العصبي، حيث يؤدي كل تلف في الخلايا العصبية الخاصة باللغة إلى اضطراب هذه الأخيرة.

 هذا وترتبط كل لغة بمحيطها الثقافي والحضاري والتاريخي الذي نشأت فيه، مما يجعلها لغة لا تعبر عن شخصية صاحبها وأفكاره الشعورية أو اللاشعورية فحسب كما ذهب إلى ذلك التحليل النفسي، وإنما تعبر أيضا عن طبيعة المجتمع والعصر الذي يؤطر البنيات الذهنية لصاحب اللغة المنطوقة أو المكتوبة. يرى "جولدمان" رائد البنيوية التكوينية أن الرؤى التي يتم التعبير عنها لغويا ليست واقعة فردية، وإنما هي واقعة اجتماعية، تنتمي إلى مجموعة اجتماعية لها ماض وواقع ثقافي وحضاري معين.
 وتبعا لهذا السياق، فإن اللغة الأم التي يخاطب بها الطفل من قبل أمه وأفراد محيطه الأسري منذ سن مبكرة ليست لغة تواصل بين أفراد يجمعهم سقف بيت واحد فقط، وإنما هي كذلك أداة تواصل واتصال الطفل بثقافة مجتمعه وحضارته، فالطفل بمجرد ما يلقي به من الرحم البيولوجي، يتلقاه الرحم الاجتماعي والثقافي الذي يولد فيه ويعيش، ليتصدى له بالتنشئة والتكوين، حسب نمط ثقافته التي تتشكل عبر القيم والاتجاهات المميزة للمجتمع عن غيره من المجتمعات الأخرى.
 وبهذا تكون اللغة وسيلة من وسائل نقل الإرث الثقافي إلى الناشئة الجديدة، عن طريق الأسرة ووكالات التطبيع الاجتماعي المتنوعة، التي تكسبه الهوية الاجتماعية والثقافية.

بقلم : أحمد أوزي (بتصرف)

أضف تعليق


كود امني
تحديث