إن أسس الشخصية وركائزها الجسمية والنفسية والعقلية والوجدانية تتكون في السنوات المبكرة عبر عملية التنشئة الاجتماعية التي يحتل فيها أفراد الأسرة بشكل عام مكانة كبيرة، وخاصة الأبوين. وتنفرد الأم بمكانة خاصة في النسيج الأسري، مما يجعل ارتباط الطفل بها شديدا وتأثرها فيه قويا؛ وذلك تبعا للدور البيولوجي والنفسي الأساسي الذي تقوم به في إشباع حاجاته الأولية.

 ينمو الطفل ويتطور من الناحية الجسمية عن طريق إشباع حاجاته العضوية، في حين تقوم أساليب التربية والتعليم (بمفهومها الواسع) بمساعدته على النمو العقلي والمعرفي؛ أما التطور والتوازن العاطفي، فإنه وثيق الصلة بتفاعل الطفل بالأفراد الذين يحتك بهم منذ سن مبكرة في وسطه الاجتماعي.
تهدف هذه الجوانب الأساسية المكونة لشخصية الطفل خلال نموها إلى منحه قوة جسمية ووسائل ذهنية وتوازنا عاطفيا، يساعده على تكوين شخصيته واتخاذ قراراته بمحض إرادته، والقيام بالاختيارات اللازمة، مع مراعاة حاجاته ومتطلبات مجتمعه في آن واحد. كما يساعده ذلك على الإحساس بالأمن والأمان الضروريان لتأكيد ذاته، والتعبير عنها، والتواصل مع أفراد محيطه.

 إن الذي ينشئ الطفل وينسج شخصيته ويميز كيانه، ليست الأوامر والنواهي التي يتلقاها عبر الرسائل اللغوية الصادرة عن أبويه او من يقوم مقامهما، مهما كانت منظمة وصارمة، وإنما الذي يكون شخصيته وهويته هو المناخ العام السائد في الأسرة، أي حضور الأبوين، وسلوكهما، وسلوك الإخوة والأخوات والجيران، وبكلمة واحدة مجريات الحياة اليومية بكل ما يراه الطفل فيها ويحسه ويسمعه؛ فهي التي تؤثر فيه وتكونه.
إن عناصر الحياة اليومية في البيت تترك على الطفل بصماتها التي تميز شخصيته، وكيانه، وتعطيه هوية خاصة ومتميزة، ذات طبيعة ومزاج خاص. إنها مؤثرات يومية متكررة ومتجددة تكون بالتدريج اتجاهاته، وقيمه الأساسية، التي توجه سلوكه في الحياة.

 يشكل بدون شك نوع المناخ الأسري السائد هوية الطفل ومستقبل سلوكه وتصرفاته مع غيره من أفراد المجتمع عندما يصبح راشدا مندمجا في المجتمع، يتحمل فيه المسؤولية، ويضطلع بالأدوار الاجتماعية المنوطة به، إنما مواطنا منخرطا وايجابيا وفعالا، وإنما شخصا سلبيا ومتمردا على القوانين والأعراف، ومتحديا للقوانين والمبادئ.
إن الإنسان كما يقول ابن خلدون "ابن بيئته وعوائده، لا ابن فطرته وطبيعته"؛ فالطفل في البداية كائن غير ثقافي، والأسرة، وخاصة الأبوين ينشئان الطفل ويكسبانه أنماط السلوك وخصائصه الاجتماعية، وكذلك الاتجاهات والقيم التي يتشبعان بها. وكما جاء في الأثر:" إن المولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".

 فالمعاملة الأسرية التي يتلقاها الطفل وتتجسد أمامه بشكل مستمر، تشكل النموذج والقدوة السلوكية التي تلازمه، وعندما ينتقل إلى المدرسة، فهو ينقل معه تأثير الأسرة عليه، فهو يدخل إلى الفصل الدراسي ومعه هذا التأثير، إنه لا يتركه في عتبته، على حد تعبير أحد المربين. ومن هنا ينبغي طرح السؤال عن نوع المناخ والعلاقات السائدة في المحيط الأسري الذي نشأ فيه الطفل، وما إذا كان هذا المناخ يسوده جو من الدفىء العاطفي، وجو الثقة والصراحة بين أفراده، وإلى أي حد يتسمون بروح المبادرة، والطاعة، واحترام السلطة، وقبول الرأي الآخر، وشرعية الاختلاف، وما مدى تحقيق المساواة بين أفراده، وهل يتحملون المسؤولية ويقومون بالواجبات، وإلى أي حد يتعاونون فيما بينهم، وهل هم متسامحون وهل يتعاملون على أسس ديموقراطية.

  بقلم: أحمد أوزي (بتصرف)

أضف تعليق


كود امني
تحديث