يٌعَدٌّ عدم اقتناع المجتمعات بمفهوم "الفرد" من أسباب سوء أحوالها، حيث يتراكم السوء فيها بأضعاف مضاعفة مقارنة مع ما يمكن أن يعاني منه كل فرد على حدة. كما يؤدي انعدام حرية الفرد وفرديته إلى إصابة المجتمع بالجمود والشلل، ما يعني عدم قدرة الفرد على التفكير والخيال، وما ينجم عن ذلك من غياب لذات الإنسان والإنتاج وانعدام النمو وخلوِّ المجتمع من الحياة. وحينما تسود المجتمع ثقافة تنكر على الفرد فرديته يغيب فيه تكامل العلاقات وتكافؤها، وتهيمن عليه سلطة مطلقة تٌحَوِّل أعضاءه إلى مجرد تابعين خاضعين مشتَّتين لا ينتظمون بوعي في مؤسسات مدنية فعلية. كما يحول طمس الفردية دون قدرة الإنسان على امتلاك استقلاله الفكري، حيث تتم تنشئته على نمط من التفكير والسلوك يتشرَّبه ويرفض الخروج عنه، ما يجعله يجتر هذا التفكير وهذا السلوك باغتباط وافتخار، ويدافع عنهما باستماتة، ولا يقبل أن يكونا محط مساءلة أو مراجعة.

 أضف إلى ذلك، أنه بدون الاعتراف بفردية الفرد، وتحفيزها على التعبير عن نفسها، لا يكون هناك تنوُّع في القدرات والكفاءات البشرية، لأن تلك الفردية تشكل منبعا لتعدد الإبداعات والاكتشافات والابتكارات… فلا يمكن الخروج من سجن التكرار والاجترار والخمول بدون الفردية وما تقتضيه من حريات. لأنها هي مصدر تقدم المجتمعات وازدهارها. وتفيدنا دروس التاريخ أن حضارة العصر تنهض على الاعتراف بفردية الإنسان وما نجم عن هذا الاعتراف من تحولات جذرية في الفكر والقيَّم والحياة، كما في القوانين ومختلف وظائف السلطة والعلاقات الاجتماعية. لذلك، فتغييب الفردية يصيب المجتمع بالتكلس والعجز.

 ويؤدي انعدام حرية الفكر والاعتقاد والوجدان إلى تغييب الفرد، إذ كلما غابت هذه غاب الفكر والإبداع والخيال، ممّا يحول دون قدرة المجتمع على الابتكار والإنتاج، فيصبح خاملا لا غنى فيه ولا يُرجى منه إبداع ولا بناء ولا تقدم. لا يمكن أن تبزغ الذات ما لم تكن هناك حرية ولا فكر حرّ. ويعني تغييب الذات تغييب الآخر وعدم الاعتراف به سَواءٌ من قِبَلِ الذات أو من قِبَل المجتمع. وينجم عن عدم الاعتراف بالآخر انعدام الحوار والتفاهم والتعايش، ما يفضي إلى سيادة العداء والتوحش والعنف والحروب.
إ ذا كان تغييب الفردية يحرم الفرد من ممارسة حريته وحقوقه، فهو يحول أيضا دون امتلاك الناس للمواطنة والقدرة على التعاقد، ما يُفضي إلى استحالة بناء المؤسسات. وبدون الفردية، لا يستطيع الإنسان أيضا أن يفكر ويبني المعارف ويكتشف لذَّتها، إذ لا يستطيع أن يحس بتلك اللذة مَن لا يفكر، ممَّا يحرمه من الرغبة فيها، ويٌفقده القدرة على امتلاك مؤهلات التلذٌّذ بمباهج الفكر والمعرفة والحياة والجمال، وبذلك سيمضي حياته كما يمضيها الحيوان أو الجماد. لكن كيف يتم تغييب فردية الإنسان؟

 لا يولد البشر بهويَّات، وإنما يولدون باستعدادات وقابليات فطرية، ويتشربون ثقافات مجتمعاتهم التي تٌكَوِّن شخصياتهم، فيذوبون فيها لدرجة التمسك الأعمى بقيَّمِها وأفكارها ومواجهة كل من يقوم بتحليلها أو توجيه أيِّ نقد لها. ويعود ذلك إلى أن الثقافة التقليدية للمجتمع تٌغرق أفراده بأوهام تجعلهم يَحسبونَ أنهم متميزون عن سائر البشر وأفضل منهم، فيغتبطون بالانتماء إليها، ولا يعون أنهم مصابون بالعماء الذي حوَّلهم إلى ضحايا لما زرعته فيه هذه الثقافة من أوهام حولها وحولَهم وما ربحوه من انتمائهم إليها. نتيجة ذلك، تتحول الثقافة إلى سجن محبوب من قِبَل ضحاياها!، فيصير الناس مشدودين إلى ثقافاتهم القَبَلية والطائفية، ومرتاحين لذوبانهم فيها ذهنيا وعاطفيا وسلوكيا، بل إنهم لا يعرفون أي خيار ثقافي آخر. وإذا حدث أن تكلمَ عنه شخص أمامهم انتفضوا ضده وانفضّوا من حوله معبِّرين بذلك عن رفضهم لمجرد التفكير في بديل آخر بصرف النظر عن طبيعته وأهدافه… على هذا النحو غيَّبت الثقافات فردية الإنسان على مرِّ العصور.

 غير أنَّ الأفراد والمجتمعات لم يستسلموا عبر التاريخ لطمس الفردية وتغييبها، بل كافحوا من أجل ترسيخها. وتدل كتابات فلاسفة اليونان على ذلك، حيث شكلت انطلاقة مهمة لتطوير الفردية. كما تبنى الرومان الكثير من عناصر الفردية ووسعوا العناية بالقانون عبر تطويره. ومع هيمنة الكنيسة في العصور الوسطى، خبا الحديث عن الفردية وتوقف السعي إلى تطويرها، فسادت الرؤية الأحادية المطلقة. ثم عاد الأوروبيون في عصر النهضة إلى التراث الإغريقي، فأحيَوا الفردية، فبدأت تنمو باطراد وانتشرت في كل بلدان الغرب، فحقق الغربيون تقدما هائلا لم يٌتِح لهم الخروج من ظلمات القرون الوسطى فحسب، بل وكذلك نشر منجزاتهم في أرجاء الكوكب الأربعة.
 لقد شكل تغييب الفردية أحد العوامل الأساسية الكامنة وراء تخلف بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ لم يسبق لمجتمعات هذه المنطقة أن اعترفت للإنسان بفرديته، فأصابها العقم والتخلف، فانغلقت وبقيت مجرد نسخ مكرورة لذاتها إلى أن صارت بدون أفق، وأصبحت السلطة تفعل فيها وبها ما تشاء، وحوّلتها الثقافة التقليدية السائدة إلى مجرد قطيع يعجزُ عن إدراك أسباب إعاقته الحضارية، فيعزوها إلى غير أسبابها الفعلية.

 لا يعير المجتمع العربي المسلم الفرد أي اعتبار للفرد، بل إنه لا يهتم إلا بالعشيرة والقبيلة أو الطائفة. لذلك لا تستطيع المجتمعات العربية الإسلامية أن تقوم بالبناء الديمقراطي لأن الفرد سيد نفسه ومصيره وإرادته لم يولد بعد فيها، فكل ما هناك هو أمة وجماعة! ويعني عدم وجود الفرد رفض حقوق الإنسان والديمقراطية التي تقوم أساسا على الفردية واحترام حقوق الإنسان.. لذلك فالإنسان في هذه المجتمعات ليس له قيمة، حيث تٌزهق روحه كل يوم ببشاعة دون وجود أي قوى محلية قادرة على وضع حد لهذه المأساة. هكذا، يتضح أنَّ الفردية شرط لبناء مؤسسات الدولة الحديثة وتحقيق السلم الاجتماعي والسياسي.
 لم تتعود مجتمعات هذه المنطقة على الفكر الحر والنقد والرأي الآخر. لذلك لا يستهويها إلا من يُثني عليها ويمدحها ويُظهر إعجابه بأوهامها حول تميٌّزها وتفوٌّق ثقافاتها وقيَّمها على غيرها من ثقافات المجتمعات الأخرى وقيّمها، فكانت النتيجة أن صارت هذه المجتمعات ترفض الإنصات لخطاب المفكرين القلائل الذين يحاولون التفكير في العوامل المعيقة لتطورها الحضاري، بل إن بعض "فقهائها" لا يترددون في تكفير هؤلاء المفكرين.

 ويدلّ تطور المجتمعات المتقدمة في العصر الحالي على أنه لا يمكن لأي مجتمع أن يتقدم ويزدهر ما لم يُشجع الفردية ويٌمَكِّن كل فرد من أفراده من تحقيق ذاته والاعتماد على نفسه والإحساس بمسؤولياته نحو نفسه ونحو غيره، إذ بهذا تبزغ قيمة الالتزام لدى الأفراد وتتعدد قدراتهم، وتتنوع إبداعاتهم وتختلف وتتكامل، وتتكاثر مبادراتهم ومشاريعهم، فيصب ذلك كله في إغناء المجتمع وخدمة صالحه.

 وإذا كان احترام الفرد، وضمان حقوقه وحرياته وتوفير شروط تنميته لقدراته يحقق مكاسب جماعية، فالتجارب تؤكد أيضا أن لفردية الإنسان نتائج اقتصادية وحضارية كبيرة، حيث نلاحظ اليوم أن الأفراد الذين يعيشون في مجتمعات تسطو السلطة فيها على كينونتهم وتقمعهم يكونون مجرد كائنات عاجزة عن التفكير والإنتاج، ما يجعلهم عبئا على أنفسهم وعلى بلادهم. وعلى النقيض من ذلك، نجد أن تجارب المجتمعات التي تبنَّت مبدأ فردية الفرد، وأطلقت طاقاته المتعددة والمتنوعة، تؤكد أن الفردية هي أساس الرخاء والتنمية المستدامة التي لا يمكن أن تنهض على الثروات الطبيعية وحدَها القابلة للنضوب، وإنما على الثروة البشرية النامية والمتجددة. ففي المجتمعات المتقدمة نجد أن كل مولود يخرج إلى الحياة يشكل طاقة إبداعية وإنتاجية جديدة، لكننا نجده في المقابل يشكل في المجتمعات المتخلفة عائقا إضافيا من عوائق التنمية.

 وخلاصة القول إن تغييب فردية الإنسان يشكّلُ أحد موانع انعتاق مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من التخلف، حيث لا يمكن إجراء أي إصلاح أو تنمية بدون قبول فردية الفرد وتمكينه من حرياته وتنمية قدراته. فالواقع لن يتغير ما لم يتغير الفرد، والفرد لن يتغير إلا بتغير المؤسسة. وعندما أقول المؤسسة، فإني أعني بها دلالتها التي تجعلها تشمل الأسرة والمدرسة، والمؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى… (أدونيس).

                                                              بقلم: محمد بوبكري

أضف تعليق


كود امني
تحديث