أصبح من السهل على المُخالِف في بعض الموضوعات المتعلقة بالسياسة اللغوية بالمغرب، أن يخرج بمخالِفه من الحِجاج إلى اللِّجاج، وأن يُهرول إلى أقرب مخرج للهروب من المأزق الذي يقع فيه، مبادِرًا لاتهام كلام مُحاجِجه أو رأيه وموقفه بالكلام الإيديولوجي المخالف للعلم والموضوعية. فكل ما وافق توجّهَه واختيارَه في الرأي والتفكير فهو عنده علمٌ، وما خالفه ولم يوافق هواه فهو مجرد إيديولوجيا وخروج عن الموضوعية. هكذا بدون أسباب ولا مقدمات.
مثالان سريعان:
استمعت قبل عدة أشهر إلى محاضر تُضفي عليه نوافذُ إعلامية معيَّنة أحيانا صفة (المفكر الكبير)، وقد جاء في حديثه أن الكلام عن الفرنكفونية في المغرب مجرد كلام إيديولوجي، أي ليس حديثًا علميا ولا موضوعيا. مع أن الفرنكفونية في حد ذاتها، ومن ألفها إلى يائها، ليس فيها شيء غير الإيديولوجا. ألا يعلم الرجل أن الفرنكفونية إنما هي سياسة لغوية وتعليمية غايتُها الاستثمار في اللغة والثقافة الفرنسيتين ونشرهما لتُبنى عليها المنافع الاقتصادية الطائلة السالبة لثروات الشعوب، والمواقف السياسية المُجحِفة بحقوقهم واستقلالهم؟ وفي الوقت نفسه تحدّثَ عن العربية في المغرب ونفَى عنها صفة اللغة الوطنية والقومية. فماذا نسمّي اللغة التي تكلَّم بها المواطنون المغاربة وكتبوا وألفوا وترجموا وصاغوا بها أفكارهم وأشعارهم وأنشدوا أغانيَهم وأهازيجَهم وأمثالهم، أكثر من أربعة عشر قرنًا، حتى ملأت وجدانهَم وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتهم وهويتهم، وازدهى بها تاريخُهم وماضيهم وحاضرهم، إذا لم نعتبرها لغتَهم الوطنية والقومية؟ قال إنها لغة حضارية.
نعم هي كذلك بكل تأكيد، لكن ما الذي يمنعها من أن تكون لغة حضارية ووطنية وقومية في وقت واحد؟ وأين هي اللغة الوطنية الأخرى التي يمكن أن تحل محلَّها في القيام بكل الوظائف الضخمة التي قامت بها طوال التاريخ الإسلامي لهذه البلاد، وتملأ الفراغ الذي ملأته، وتكون قادرة على الوقوف في وجه أعتى اللغات الأجنبية ومصارعتها ومواجهتها وصدّ عدوانها وهيمنتها حفاظًا على شخصية البلاد؟ ما هذا النفاق، والخَواء المقدّم للناس في لفافة (العلم) الكاذب و(الموضوعية) الزائفة؟
مثال آخر قريب زمنا: جاء في كلام أحد المحاضرين (المرموقين) في ندوة عن الوضع اللغوي بالمغرب، أن سياسة التعريب التي اختارها المغرب في بداية الاستقلال كانت خطأ وجناية على الأمازيغية وعلى البلاد ومجرد إيديولوجيا فاشلة !! لكن الرجل الذي ما عرفناه إلا منخرطًا حتى النخاع في الدفاع عن السياسة الفرنكفونية تارةً وسياسة التمزيغ تارة أخرى، لا يشعر بهذا التناقض الفظيع بين أن يكون متورطًا في الدعوة والتخطيط والعمل لمصلحة سياسة لغوية معيَّنة، ولا يسمّي ذلك إيديولوجيا، وبين أن يستمر في القول بإصرار إن الكلام عن استعمال العربية في التعليم والإدارة بدل اللغة الأجنبية، محضُ إيديولوجيا لا علاقة لها بالموضوعية؟
سؤال بسيط: ما هي اللغة الوطنية التي كان على المغرب غداةَ حصوله على استقلاله، أن يختارها للتعليم والإدارة ويجعلها أساسَ بناء مدرسته الوطنية وإعداد أُطُره وكفاءاته وتحقيق مطلب المغربة والتعميم، بدل العربية؟
هل كانت الأمازيغية مهيّأة آنذاك للقيام بهذه الوظيفة في ذلك الوقت حتى نقدمها على العربية؟ أم كان على الساسة المغاربة أن يُنحُّوا العربية نهائيّا ويختاروا الفرنسية لغةً وحيدة للتعليم والإدارة والإعلام وكل شيء ويتنكّروا لكل مطالب الشعب والنُّخَب بضرورة رد الاعتبار للعربية بعد أن حاول الاستعمار القضاء عليها ومحاربتها بكل الوسائل؟ كان اختيارُ العربية ملحًّا وأكثر من ضرورة، وإلا لأصبح شأنُ المغرب كشأن أي بلد إفريقي آخر تخلى عن لغاته الوطنية المتعددة وتبنّى الفرنسية أو الإنجليزية لغةً رسمية ومشتركة. لم يكن الأمر، إذن، بقصد اجتثاث أصول الأمازيغية والقضاء عليها، على نحو ما يُشاع ظُلمًا وبهتانًا.
من أعطاكم الحق في التلاعب بعقول الناس بهذه السفسطة اللغوية الموظَّفة توظيفًا مُغرِضًا بهذا الشكل السخيف والمنطق الذي لا يستقيم؟ الحجاج المبني على أسس علمية وموضوعية حقّة حجاجٌ منطقي تُبنى نتائجُه وخلاصاتُه على مقدماته السليمة المسلَّم بها، لا على هَرطقات وتناقضات وتلفيقات واستغفال السامع والقارئ والرائي بلعبة ليس فيها إلا ذكاءُ خفة اليد واللسان، والتدليس بالمغالطة وخلط الأوراق.
بقلم: عبد العلي الودغيري