هل حدث في التاريخ القديم أو الحديث والمعاصر أن واحدًا من المسلمين خرج إلى الشارع وأحرق أمام الملإ توراة اليهود أو أناجيل النصارى؟ هل حدث أن واحدا من المسلمين رسم رسوما مسيئة لموسى أو عيسى أو مريم عليهم السلام ونشرها في جريدة أو كتاب؟ إن هذه الشعوب الإسلامية المتَّهمة عند الغرب بالتطرّف والعدوانية والإرهاب، لا تسمح لنفسها بأن تفعل شيئًا من هذا، لأن ثقافة احترام الأديان السماوية الأخرى متجذّرة في وعي المجتمعات الإسلامية منذ القديم، فلم يسجّل التاريخ عليها أو على واحد منها، في حدود ما نعرف، أنها تهجَّمت على أنبياء اليهود والنصارى باللسان أو القلَم أو التصوير. بل هي شعوب تؤمن بكل الأنبياء والرسل وتعظِّمهم، ويدخل ذلك ضمن ما يتعبّدون به في دينهم وينشأون عليه في سلوكهم اليومي، ولا يُذكر أحد منهم إلا وهو مشفوع بالتكريم والتبجيل والسلام عليه.
فيقال: سيدنا عيسى عليه السلام، سيدنا موسى عليه السلام ...الخ. وإذا سمّوا أبناءهم أطلقوا عليهم أسماء هؤلاء الأنبياء والرسل من نحو موسى وعيسى ويعقوب ويوسف وإسحاق وسليمان وداود غيرهم، وأما إطلاق اسم مريم أو مارية على بناتهم فكثير وقديم. وهذا منتهى الاحترام والتقديس لكافة الأنبياء والرسل في العقيدة والثقافة الإسلاميتين. فهل وجدتَ أحدا من اليهود والنصارى سمى ابنًا له باسم محمد أو أحمد أو عثمان وعلي والحسين والحسين، أو عبد الرحمان وعبد الرحيم وعبد السلام، ونحو ذلك من الأسماء الخاصة بالمسلمين (باستثناء اسم عبد الله لأنه كان موجودًا قبل الإسلام ومع ذلك فالتسمية به نادرة، واسم فاطمة الذي أطلق على كنيسة في مدينة برتغالية تحمل هذا الاسم العربي القديم، وكنيسة أخرى في دمشق سميت عليها).
هذا هو شأن المسلمين الموصوفين عند الغرب بالتطرُّف والتشدّد والإرهاب، في تعاملهم القديم والحديث مع الديانات السماوية الأخرى ورموزهم ومقدساتهم. فماذا نجد في مقابل ذلك في حياة المجتمعات والشعوب الأخرى اليهودية والنصرانية؟ عساكر اليهود تدنّس المسجد الاٌقصى كل يوم، تقتحمه بأحذيتها القَذرة وتعبث بما فيه من مصاحف وكتب إسلامية، وتضرم النيران في أطرافه، وتضرب المصلين وتخرجهم من مُصلَّياتهم ومحاريبهم، وتمنعهم من الاعتكاف في رمضان، وتحدد سنّ الداخل إلى المسجد من المسلمين، وغير ذلك من أنواع الإذاية التي نراها على شاشات الفضائيات كل يوم، ولا يتحرك لاستنكارها ما يسمونه ب (العالم الحر) و (العالم الديموقراطي) و (عالم حقوق الإنسان) و (حرية العقيدة والدين).
أما الدول الغربية المسيحية في عمقها العلمانية في ظاهرها وزعمها، فها نحن نرى المتطرفين من أبنائها كيف يتعاملون مع القرآن الكريم الذي يقدسه المسلمون (وهم أكثر من مليار ونصف) ويتعبدون به، بالحرق والإهانة والتمزيق، ومع النبي محمد عليه الصلاة والسلام بالتشويه والسخرية في رسومهم وصُحفهم. ولا تجد دولُهم ما تفسّر به ذلك التعصّب الأعمى والتطرّف الحاقد والإرهاب الوحشي، إلا بالاحتماء وراء عبارة (حرية التعبير). هل حرية التعبير تعني الاعتداء على مقدَّسات الآخر وإهانتها وحرقها وتمزيقها والإساءة إليها بالقول والفعل، وجرح مشاعره بهذا الشكل المهين المستفِزّ الذي لا يقبله منطق التعايُش السلمي ولا منطق حرية التعبد والعقيدة التي يَدعون الناسَ إليها؟ وهل هم وحدهم الذين يحق لهم أن يعبّروا عن أنفسهم بهذه الصورة المستفزّة؟ ماذا لو لجأ مسلم أو جماعة مسلمة إلى حرق التوراة أمام كتيس يهودي أو حرق الإنجيل أمام كنيسة مسيحية؟ كيف ستكون ردود أفعال اليهود والنصارى في العالم؟ وهل سوف تتسامح الدول الغربية إن وقع شيءٌ من ذلك ــ ولا نريده أن يقع ونحذر المسلمين إلى اللجوء إليه ــ وتتغاضى عنه بدعوى حرية التعبير؟ هل الغربيون الذين يصفون أنفسهم بالتحضُّر والتعلُّم والوعي والفهم، لم يفهموا بعد أن الحرية لا تكون مجزَّأة، ولا تعدّ حرية حقيقية إلا إذا احترمت حرية الآخر وضمنت حقوقه، ووقفت عند حدوده، وإلا أصبحت ظلمًا له وحربًا وعُدوانًا عليه ؟ لنفرض أن بعض الأشخاص منهم لا يفهمون هذا، فهل حكوماتهم، حتى المتقدمة منها التي ترفع شعارات احترام حقوق الإنسان وحقوق الشعوب، لا تفهم هذا أيضًا؟
نقول هذا لأننا نجد أن تلك الحكومات، في بعض الحالات، هي التي ترخِّص لأولئك الذين يحرقون القرآن أمام الملإ، كما رأينا في واقعة السويد الأخيرة، وهي التي تبرِّئهم من جريمة ما فعلوا وتدافع عنهم وتعتبر ذلك من قيم الدولة كما في حالة صحيفة شارل إيبدو بفرنسا؟
هل يفهمون جيدا أن كل هذه الأفعال التي يرخِّصون لها أو يتغاضون عنها، أو يدافعون عنها بشكل أو بآخر، إنما تجرّ إلى الحروب الدينية التي لا تُبقي ولا تَذَر، وتجرّ قبل ذلك إلى تقوية الإرهاب الدولي وإعطائه المسوِّغات الكافية لكي يستمرّ ويتعاظم وينتشر في كل أنحاء المعمور؟ ألا يفهمون أن التطرُّف يجرُّ إلى التطرُّف المضادّ، والإساءة تجرّ إلى الإساءة، والعنف يجرّ إلى العنف، وكلُّ هذا مناقض لروح السلم والسلام التي نريدها أن تعمّ العالَم من أقصاه إلى أقصاه؟
بقلم: عبد العلي الودغيري