ينزع الخطاب البيداغوجي المعاصر بما في ذلك الخطاب الرسمي إلى إقامة تمييزات بين المواد الدراسية حتى في سلك التعليم الابتدائي. فيصف المواد اللغوية والرياضيات بالمواد الأساسية بما يفيد أن باقي المواد كمواد التفتح والتنشئة الاجتماعية ليس بالمواد الأساسية بل هي أدنى قيمة وأقل أهمية.
يستند البعض في دعم هذه التمييزات إلى الغلاف الزمني المخصص لكل مادة دراسية. وخاصة أن المواد اللغوية والرياضيات في هذا السلك تنفرد بالحصة الأكبر من الزمن المدرسي. وهو مبرر قد يبدو منطقيا لكنه يخفي في طياته أمرا آخر. باختصار شديد أن توزيع الغلاف الزمني يستند إلى مرجعية ما فوق مدرسية. بما يفيد أن هذه التمييزات موجهة بخلفيات ومرجعيات ليست بيداغوجية أو ديداكتيكية.
قد تكون هذه التمييزات في سلك التعليم الثانوي مفهومة ومقبولة بشكل من الأشكال إذا ما كان مرجع التمييز هو التخصص والحاجات المرتبطة بوظيفة النموذج البيداغوجي، أهي قائمة على النسقية والتكاملية أم هي قائمة على التفاضلية والتراتبية، أهي في خدمة المواطنة والنموذج الاجتماعي القائم على العدالة، أم هي في خدمة النموذج الاقتصادي القائم على التنافسية، أم هي في خدمة النموذج العسكري القائم على التسابق نحو التسلح ومرجعية القوة.
لكن في سلك التعليم الابتدائي فإن هذه التمييزات تثير أكثر من سؤال وخاصة عندما يتم تداولها في الوثائق الرسمية والتقارير والدراسات والتقويمات، وفي مختلف السياقات المدرسية. وهو ما يدفعنا إلى تقديم جملة توضيحات لكل غاية مفيدة:
- لا شك أن سلك التعليم الابتدائي يرتبط بمرحلة عمرية مهمة، إن على مستوى درجة نماء الشخصية أو على مستوى درجة نماء القدرات والمعارف والمهارات واكتساب القيم. وهي مرحلة وسيطة وانتقالية. ينتقل فيها الطفل من رحم الأسرة إلى رحم المدرسة، من الرحم الخاص إلى الرحم العام. ودراسيا هي مرحلة ينتقل فيها الطفل باعتباره متعلما من أنشطة التهيئة لأنشطة القراءة والكتابة والحساب وتعزيز تفتح الذات واكتساب القيم في المرحلة ما قبل مدرسية والتعليم الأولي، إلى مرحلة أنشطة التأهيل للقراءة والكتابة والحساب ثم تعلم القراءة والكتابة والحساب والتربية على القيم والتربية على الاختيار. ومن مرحلة التعلم من خلال مجالات ومشروعات إلى مرحلة التعلم من خلال مجالات دراسية ومواد متخصصة بمكونات محددة. إن طبيعة هذه المرحلة الانتقالية، بهذه المواصفات، تجعل المواد الدراسية كلها موادا دراسية أساسية. كما تجعلها جميعها حقولا تأهيلية كاشفة للقدرات والميولات والاهتمامات من جهة، كما تجعلها مجالات لأنشطة لتعلم المهارات الأساسية للتعلم وتعلم التعلم من جهة ثانية إلى جانب أنشطة لتعزيز الانتماء والتشبث بالقيم والثوابت الجامعة من جهة ثالثة.
- إن إقامة التمييز بين المواد اللغوية والرياضيات من جهة، ومواد التفتح والتنشئة الاجتماعية من جهة ثانية، هو تمييز راجع في أساسه إلى التمييز المقصود والموجه في المنظومة الليبرالية بين الفرد من جهة، والمواطن من جهة ثانية وأيهما أسبق وأولى وأحق بالأسبقية والاهتمام. كما هو تمييز قائم على أفضلية المادة الدراسية والتخصص في المجتمع. لقد كان التعليم في المجتمع الاسلامي يحتكم إلى ضوابط تقوم على الأولوية ثم التكامل والتوجيه. حيث يبدأ الطفل بحفظ القرآن الكريم ثم ينفتح على العلوم الأداتية لتفسير وفهم وتدبر القرآن الكريم ثم التوسع والتبحر في العلوم والمعارف بحسب الاهتمام والميول. ولم تكن بين حقول المعرفة أية حواجز أو قطائع.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو على الشكل التالي: ما الأهم في سلك التعليم الابتدائي وما الأكثر أهمية؟ أهو التركيز على المتعلم باعتباره مواطنا أم باعتباره فردا؟ أهو التركيز على بناء الشخصية المتوازنة أم الشخصية المهنية والتموقع الاجتماعي في هرم التراتبية الاجتماعية والسلطة؟
بناء على ما سبق نحدد عناصر الجواب كما يلي:
1 - تعد المواد الدراسية في سلك التعليم الابتدائي بمثابة حقول للتأهيل ومجالات لأنشطة رصد القدرات وكشف الميولات والاهتمامات وتنمية وتطوير مهارات التعلم وتعلم التعلم. وأن التقسيم القائم على المواد هو تقسيم منهجي لا يقوم على الترتيب ولكنه قائم على التكامل السياقي.
2 - إن هذه الحقول وهذه المجالات كلها أساسية تتكامل فيما بينها وتستهدف أولا تثبيت علاقة الانتماء بمختلف مستوياتها، ثم تفتح الشخصية وتعزيز تموقعها في الزمان والمكان وضمن شبكة العلاقات والتفاعلات الاجتماعية ثانيا، ثم تنمية وتطوير مهارات التعلم وتعلم التعلم ثالثا، ثم تنمية وتطوير المهارات الحياتية الذاتية والاجتماعية رابعا، ثم الاستئناس بالمهن واكتساب أليات الاختيار والتفضيل في مجال المهن من أجل توفير شروط الاندماج والتطوير المهني خامسا. ومن ثمة يمكن اعتبار هذه المواد الدراسية موادا دراسية تنظيمية وأساسية وتأسيسية. لا فضل لواحدة على الاخرى ما لم نقل أن مواد التفتح والتنشئة الاجتماعية ذات أولوية وأفضلية في إعداد المواطن.
3 - إن التمييز بين هذه المواد الدراسية إن قبلنا بتسميتها بالمواد الدراسية،على كل حال، يكون على أساس أن المواد اللغوية والرياضيات هي مواد أداتية تدرس باعتبارها مقصودة لذاتها من جهة، وتدرس باعتبارها أداة لتدريس مواد أخرى من جهة ثانية. وكونها أداتية لا يعطيها الحق في صفة التميز في سلم المواد الأساسية. ومن ثمة فجميع المواد الدراسية بسلك التعليم الابتدائي هي مواد أساسية، ليس لانها تشتغل جميعها وفق نفس الاختيارات و تستهدف تنمية وتطوير نفس المهارات وتتظافر جميعها لتنمية وتطوير نفس الكفايات وفقط ، ولكنها أيضا جميعها أساسية لبعضها البعض. فمثلا مادة التربية التشكيلية التي تنتمي إلى مجال أنشطة التفتح والتنشئة الاجتماعية هي مادة أساسية للتفتح الذاتي وكشف المواهب كما هي أساسية لمادة الرياضيات ومكون القياس والهندسة ، لأنه لا يمكن تصور مهندس معماري تقني بدون خلفية تشكيلية فنية واجتماعية ويفتقد إلى حس الانتماء والمواطنة وإلى الذوق الفني والذوق العام الذي تعمل على تنميته أنشطة مواد التنشئة الاجتماعية كمواد التفتح والاجتماعيات.
4 - إن ما تعرفه منظومات القيم من أزمات وتنازعات تفرض على النماذج البيداغوجية المواطنة أن تعيد النظر في توصيفاتها للمواد الدراسية والحقول المعرفية بما يسهم في تكوين المواطن بدل تكوين الفرد، لأن المواطنة تقوم على المشترك وعلى المصير المشترك وعلى التكامل في الوظيفة الاجتماعية، في حين تقوم الفردية أو الفردانية على التنازع والتنافس والتراتبية والاقصاء والتفضيل الذاتي والأنانية. ومن ثمة، فالتربية على المواطنة هي تربية من أجل مواطن يتم تعزيز وعيه بانتمائه وتعزيز موقعه ضمن الجماعة التي ينتمي إليها وفق منظومة قيم صلبة وناعمة، غايتها المصلحة الفضلى للأمة. وهي تربية وتكوين من أجل الإيجابية الاجتماعية وبناء مقومات الانخراط الاجتماعي والإدماج المهني الفعال. أما التربية على الفردانية هي تربية من أجل مجتمع الأفراد، مجتمع الموارد البشرية، مجتمع الزبناء، مجتمع موارد الانتاج والاستهلاك.
فعن أي مواد دراسية أساسية نتحدث؟ ومن أجل أي مجتمع تشتغل النموذج البيداغوجية ، أهو مجتمع المواطنة أم هو مجتمع الأفراد، مجتمع "أنا أولا وبعدي الطوفان"؟
بقلم: عبد الرحمان زيطان