كانَ الصباحُ، ذاك الصباح، مسروقاً من فصلٍ آخر: سماءٌ دانيةُ القُطوف. بحرٌ هاربٌ من عُمقه. شمسٌ تطلّ باحتشامٍ من القبّة الزرقاء. أشجارٌ ترتّل أغنيّة الأبدِ في هدوءٍ كهنوتٍّ خاشعٍ. نوارسُ تتراقصُ على نحو سريالٍّ مُحيّرٍ. وحدَه الحكيمُ كانَ يجلسُ في الحيز الخارجيِّ لمقهى ليكسوس. يتملّى الأفقَ بنظرةٍ حُبلى بالمعنى.
يجيلُ بصرهُ بنظامٍ مُسوبٍ. كلّ نظرةٍ، هنا، مَرتبَةٌ من مراتبِ المعنى: نظرةٌ مخترقةٌ. نظرةٌ متطلّعةٌ. نظرةٌ مستفسرةٌ. نظرةٌ مترجيّةٌ. نظرةٌ عاشقةٌ. نظرةٌ سابرةٌ. نظرةٌ حكيمةٌ. نظرةٌ حانيةٌ. نظراتٌ تُصَرفُ المعنى باقتدارٍ مكين . عادَ إلى كتابه يترصّد الدّلالة بذهنِ مُتوقّدٍ. ينقلها من لغةٍ إلىُ أخرى بروحٍ خميائيّ حَذِقَ تحويلَ المعدن الخسيس ذهباً لامعاً. تُرخي اللّغة زمامَها له فيقتادها نحو حتفها الصّاعق. وكلّما رصفها في قلب النّسقِ الجديدِ، اتّسعت عوالمها أكثر. كانت روحهُ منذورةً لشهقة اللغة ونحيب المعنى.
وصلَ رحيم متأخراً قليلاً عن الموعد فوجدَ الحكيمَ مُستغرقاً في القراءة: القراءةُ أسّ حياته. والكتابة امتدادهُ الرّوحي. بعيداً عنهما لم يكن ليحيا. اتّجه نحوه بصمتٍ وهدوءٍ . جلسَ قُبالته دونَ أن ينبس بكلمةٍ مُحاذراً أن يّفسدَ قداسة الصّمت الخلّاق؛ فصمته كان كلاماً مُثقلا بالحكمة. رفعَ الحكيم رأسهُ وقال مُسلِّماً ومُرحباً:
- "كيفَ حال هذا الرّجل العظيم...؟"
وزنَ رحيمُ الألفاظ المنتقاة بميزان الدّلالة. وتساءل في طويّة نفسه: "كيفَ يراني عظيماً وهو الذي تخلّق في قلب العظمة...؟ من أين يغترفُ جمال الرّوح وحكمة العقل...؟". ثم أجابَ:
- "العظمةُ، يا سيدي، تثوي في عين الرّائي؛ فالعينُ ترى جمالها وتغدقه على الخارجِ فيصبحُ جميلاً على شاكلتها".
ابتسمَ الحكيمُ ابتسامةً رقيقةً مربّتاً على كتف رحيم وقال بصوتٍ حانٍ:
- "لا تفارقكَ السّيميائيّات أينما حللت، أخشى أن تقتلك العلامةُ يا رحيم. أخبرني ماذا تشربُ...؟
- ردّ الضّيف: "قهوة سوداء مقطّرة من حبرِ كتبكَ الباذخةِ...".
نادى الحكيم نادلَ المقهى مُلتمساً منه إحضار فنجان قهوةٍ يشرعُ نوافذ الصّباح.
امتدّ الحوار بينهما في كلّ اتجاه. تحدثا عن الصّورة ومسارب التّدلال داخلها. قال الحكيم:
- الصورةُ ليست واقعاً؛ بل ظلٌّ شريدٌ يرسمُ عالماً لا يمكن أن يكون.
- ردّ رحيم: الصورةُ اقتطاعٌ لجزئيّةٍ تعرّي العالمَ وَفق شهوة المصوّر.
- سألَه الحكيمُ مُتبراً: وأين يرقد المعنى...؟.
- أجاب رحيم بتردّد بادٍ : يسكنُ في النتوءات والحافات....
- استطردَ الحكيم: ويمكن أين يستوطنَ اللون والوضعة والضوء والشكل...؟
- ردّ حيم: لا شيء يمنعه عن ذلك....
كانَ الحديثُ بينهما حوار الهندسة مع الماء، كلاماً لا يشبهُ الكلامَ. كانَ نشيداً موغلاً في الرّمز؛ وكأنه رسمٌ على لوحٍ أوغاريتي تَقادم بفعل الحتّ، فأضحى عصيًّا على التّشفير.
عاجا على الرواية. استأثرت أكوان السّرد بالشطر الأكبر من المجالسة المستنيرة. كانت البدايةُ من الأدب الفرنسي: انهمارُ الذاكرة في "البحث عن الزمن الضائع" لبروست. قال الحكيم:
- بروست: اندلاعُ الحقيقية الإنسانيّة في كلّ التخومِ...
ارتشفَ رحيم الإلماعةَ النقديّة اللاذعة بالتذاذٍ متأنٍ ثم قال:
- بروست: تشظِي المعنى في وجودٍ مذعنٍ لتوحّش الليبراليةِ .
تفرّس الحكيم تفاصيل الجملة بنباهة نبيّ صعقه المعنى، وقال:
- "البحث عن الزمن الضائع بحثٌ عن حقيقة كلّما تبدّت تبدّدت؛ بحثٌ آيتهُ الاحتراقُ الكلّي. كلّما احترقتَ تراءى لك حجمُ وجودكَ يا رحيم...".
صمتَ رحيم مُقلباً الجملةَ على احتمالاتٍ دلاليّةٍ متعدّدة. عبثاً حاول. تضاءل دَركُه عن فهم مجاهلها. حين نظر رحيم إلى الحكيم، ألفى عينيه ترشحانِ عطفاً. كانَ يجدُ فيه الأبَ الذي لم يجدهُ. كلّ لفظةٍ تندُّ عن لسانه تستبطنُ حيواتٍ وإيحاءاتٍ بالغة العمق والدّلالة.
بعدَ "مارسيل بروست" كان الحديث عن "فيكتور هيجو" و"ألكساندر دوما" وإميل زولا" وغيرهم من الكتّاب الفرنسين الذين نذروا حياتهم بحثا عن المعنى. كل كاتب كانَ يتحوّل في لسانهما إلى مُتتالية من العلامات التي تختزّل الوجودَ في صورةٍ رمزيةٍ تربأ عن التشخيص المبذول وتعتنق التجريد المتعال. وكلّما امتدّ الاشتباك المع رفيّ بينهما أيقنَ رحيم أنّ الرجلَ يكتنزُ طاقة نورانيةً يضيق بها جسدهُ. طاقةٌ تهفو للاندلاع خارجها على شكل ومضاتٍ لا يفهمها إلا اللبيب الحصيف.
كانت الساعة تشيرُ إلى الثانية عش رة صباحا. أخذهما الحوار ساعتين ونيّف. ساعتان بعمر خمس دقائق. وضعَ الحكيم كتباً مترجمةً ل "زفايغ" و"هيغو هيغاشيو" و"كارل ويسمانس" ممهورةً بإهداءٍ خاصٍ. ثمّ ودّع رحيم وداعاً حاراً وقال: نلتقي في موعدٍ آخر يا بُني. وغابَ بعيداً في صمته...فكان الوداعُ وكانَ الألمُ...
بقلم: عبد الرّحيم دَودِي