حين نريد الإشارة إلى كبر المسافة بين النصوص المكتوبة، أكانت قوانين أو تصريحات وما إليهما، وما هو قائم في الواقع، نقول: «إن الأمر مجرد حبر على ورق»، فالأشياء الجميلة والبرّاقة، المنصوص عليها في الدساتير والتشريعات، أو المدلى بها في التصريحات، لا تجد طريقها إلى التطبيق المنشود، كأن وظيفة «الحبر على الورق» تجميل ما ليس جميلاً.
 
مع ذلك، سيكون تبسيطاً لو نظرنا للأمر من هذه الزاوية وحدها، فللحبر على الورق وجه آخر، تنبهنا إليه الأديبة المصرية الشهيرة ب«بنت الشاطئ»، التي قالت في حوار قديم لها مع إذاعة «بي. بي. سي»،: «لما تتحط الكلمة على الورق، تصبح ذات تأثير».
 
و«بنت الشاطئ»، كما شرحت هي نفسها، ولدت لأبٍ هو شيخ أزهري، ولم يكن مألوفاً، في ذلك الوقت، أن تنشر فتاة ابنة شيخ، مقالات باسمها الصريح، فاختارت أن تنشرها بالاسم الذي بتنا نعرفه بها، والذي استوحته من نشأتها على شاطئ النيل في دمياط، حيث كانت طفولتها، ولاحقاً تزوجت من أستاذ جامعي لا اعتراض لديه على أن تنشر مقالاتها باسمها الحقيقي، عائشة عبدالرحمن، ولكن كان من الصعب عليها التخلي عن الاسم الذي عرفه القراء بها، خاصة من خلال مقالاتها في «الأهرام».
 
ما قالته «بنت الشاطئ» كان رداً على سؤال المذيعة حول ما إذا كانت المرأة العربية قد نالت حقوقها فعلاً، أم أن الأمر مجرد «حبر على ورق»، فردّت عليها بما معناه: «إذا كنت تقصدين أن الأمر صوري، ولا شيء قد تحقق، فأنا لا أوافق، لأن مجرد وضع الكلام على الورق هو خطوة إلى الأمام».
 
من وحي هذا يمكننا القول إن الكلمة عندما تدّون تكتسب قوة، بوسعنا أن نصفها بالملزمة، فالمكتوب ليس كالمحكي، فالأول، خاصة عندما يكون تشريعاً، يصبح مرجعية تكون هي الحكم في أي نزاع أو خلاف ينشأ إن على مستوى الأفراد أو على مستوى المجتمعات.
 
حين أراد رولان بارت التفريق بين الكلمة المكتوبة والكلمة المنطوقة عقد مقارنة بين الكاتب والأستاذ في المدرسة أو الجامعة، فلاحظ أن لسان الأستاذ لو زلّ بعبارة من العبارات فإنه يملك الفرصة لتدارك الموقف، لتصحيحها، لكن الكلام المكتوب لا يمكن أن يتراجع القهقرى، ثم إن أية كلمة مكتوبة تضاف لمزيدٍ من الشرح والتوضيح، لا تلغي العبارة المدوّنة السابقة لها.
 
إن الكلمة المضافة تحتمل قولاً جديداً يعضد ما سبقه، وإن لم يعضده فإنه يُحمّل كاتبه موقفاً آخر، قد يكون مضاداً لما سبقه، وربما مطوّراً له.
بقلم: حسن مدن