إن السلوك الإنساني منظومة من الأفكار والعواطف والميول والتصرفات. فهو مركب معقد من كل هذه المكونات التي تتفاعل في وجدان الفرد وشخصيته ومنظومة علاقاته الاجتماعية. فالفرد يستمد من المجتمع العقائد والقيم وموجهات السلوك. حيث تتجمع كل من هذه المكونات في صور ذهنية تعبر عن الأفكار الكامنة واللغة المنطوقة وأساليب التواصل والسلوك المتبوعة. والمجتمع الإنساني مترابط في تكويناته وفي حركته وثقافته، خاصة في عصر ثورة المعلومات والاتصال، فالسلوك الإنساني حلقات متداخلة مترابطة متصلة في هذا العالم الكبير المتواصل. في هذا السياق الإنساني العالمي والمحلي والشخصي يمكن فهم العنف ومواجهته بطريقة فضلى.

1 -  العوامل والأسباب المؤدية إلى العنف:

العنف يملأ المشهد الإنساني: الإعلام وترويج العنف: تجتاح المجتمع الإنساني موجات من العنف والحروب والنزاعات والكوارث والمظالم التي تطال بالدرجة الأولى العوالم المتخلفة أو التي هي في ذيل قوافل الإنسانية. تلك المجتمعات التي لا تملك زمام أمرها.

العنف الذي يجتاح العالم ومناظر القتل والتدمير والتفجير والجرائم الهائلة التي تعرضها وسائل الإعلام بتكرار واستمرار ويراها الكبير والصغير فتزيل عنها حواجز الاستغراب والاستبعاد. فيصبح العنف والإجرام أمرا عاديا في النطاق الإنسان، حيث تدخل في حيز الإمكان العقلي هو أول درجات الإمكان الواقعي والشيء الممكن عقلاً ممكن واقعاً. إن تكرار مشاهدة أحداث الانحراف والجريمة يؤدي إلى زوال وحشتها وشناعتها واستهجانها وهذا يؤدي إلى اعتبار الجريمة سلوكاً معهوداً والسلوك المعهود مأنوس ومألوف والنتيجة يصبح العنف من مجريات الحياة الاعتيادية وبالتالي يسهل ارتكابها وتبريرها ويضعف رد الفعل الاجتماعي ضدها.

الإعلام المرئي هو أحد أهم مصادر التأثير في مجتمعنا المعاصر فهو ينافس بكفاءة مؤسسات التنشئة والتثقيف التقليدية مثل الأسرة والمدرسة، وتشير الإحصاءات إلى أن البيت الواحد يشاهد التلفزيون ما لا يقل عن سبع ساعات يومياً. وفي دراسات أخرى تبين أن الأطفال يشاهدون ثمانية آلاف مشهد عنف قبل دخولهم المدرسة الابتدائية وأن الطلبة حتى للثانوية يقضون أمام التلفزيون أكثر مما يقضونه في المدارس بفارق (1000- 2000) ساعة لصالح التلفزيون. إن الاستنتاج المبدئي الذي يمكن الوصول إليه هو أن التلفزيون مؤثر. ولهذا السبب فإن شبكات التلفزة تتقاضى بلايين الدولارات مقابل بث الإعلانات. ولو لم تكن هذه الإعلانات مؤثرة في تفكير وعواطف وسلوك المشاهد ما كان لها من داع.

كما تبين من مراجعة العديد من الدراسات وجود أدلة عملية راسخة، أن مشاهدة العنف التلفزيوني مرتبطة طردياً بالسلوك العدواني عند الأطفال» أي أنه كلما زادت ساعات مشاهدة العنف زاد احتمال انحراف الأطفال. وأشارت دراسات أخرى إلى أن اهتمام وسائل الإعلام وبالذات التلفزيون ببث مشاهد الجريمة الحية وأخبارها وتفصيلاتها يؤدي إلى زيادة في معدل ارتكاب مثل هذه الجرائم بعد فترة البث ويضرب مثل على ذلك بعملية اغتيال الرئيس الأمريكي كندي ازدادت حالات العنف والسطو المسلح وبعد مباريات الرياضة العنيفة مثل الملاكمة والمصارعة (وخاصة التي يكرم فيها الفائز) فإن موجات من العنف تزداد وخلاصة الأمر أن بث مشاهد العنف والانحراف وعملياتها وقصصها مرتبط بانتشار العنف وازدياد معدلاته.

نتيجة لما سبق وكون الإنسان كائن متعلم وبالذات الأطفال ومن يفتقدون الضوابط السلوكية الداخلية يقلدون ما يشاهدونه في التلفزيون ويحاكوه والتلفزيون يقدم الجريمة وأدواتها ارتكابها وبالتالي يسهل على المقلدين عملهم وهذا ما تؤكده الملاحظة والبحث العلمي. إضافة إلى أن بعض المسلسلات التلفزيونية تقدم المنحرفين على أنهم الأبطال الذين يحققون المستحيل ويصلون إلى غاياتهم بسهولة وذكاء وفي المقابل فإن رجال الشرطة والأمن يقدمون على أنهم أدنى مستوى وأقل كفاءة من المجرمين والمنحرفين. إن هذه الدراما تصنع من المنحرفين أبطالاً ونماذج يتخذهم الأطفال قدوة يرتبطون بهم وجدانيا مما يجعلهم يسلكون طريقهم.

إن التحليل السابق يفسر لنا لماذا وكيف يؤثر الإعلام المرئي في السلوك والمطلوب هو توجيه هذه الوسائل الإعلامية وجهتها الصحيحة لتعمل باتساق مع باقي أجهزة التثقيف لتساهم في تشكيل وإعداد الإنسان الذي نريد في ظل المرجعية القيمة المعيارية العليا لمجتمعنا.

2 - الإحبـــاط والعنف:

العنف الذي يملأ المشهد الإنساني من خارجه، يواكبه احتراق داخلي بسبب الضغوطات التي تعصف بالإنسان المعاصر. فماذا يفعل من أغلقت في وجهه كل السبل؟ وماذا يفعل أب يجد أن أطفاله في حاجة إلى دواء أو ملابس أو ترويح وهو لا يستطيع ذلك؟ وماذا تكون حال من يشعر بالظلم والإجحاف؟ كيف نتصور نفسيات وعقليات كثير من الناس وهم يقعون تحت ضغط الإحباط واليأس والحاجة، والمتطلبات المتسارعة للعيش وارتفاع الأسعار بشكل غير معقول.

الشباب هم أكثر الفئات تعرضا للإحباط وللضغوط، فهم في سن البناء والتطلع إلى حياة رغيدة تتحقق فيها الحاجات الأساسية من عمل ومنزل وتكوين أسرة. لماذا هذا الإحباط واليأس؟ قد تكون بسبب ضبابية المستقبل أمام الشباب، أو البطالة، أو عجز عن تحقيق الطموحات، وتعاظم المسؤوليات وتناقص الفرص وتنامي الفجوة بين الميسورين، وبين الفقراء والمحتاجين، فجوة تتزايد في عصر الخصخصة، وسيطرة رأس المال على العالم، فالذي يملك هو الذي يستطيع اقتناص الفرص السانحة، وزيادة مقدراته على حساب عامة الناس.

إن التفاوت الكبير في القدرات والحرمان الذي تعاني منه فئات كثيرة في المجتمع يمهد للتفكك الاجتماعي وللمشكلات الاجتماعية ومنها العنف. المأزق الحرج-الذي يقع فيه الإنسان، بين فكي كماشة الحاجات والضرورات (وربما الكماليات والرغبات المصطنعة)، وبين سبل الوصول إلى تحقيقها- قد يدفع الأفراد إلى الانحراف والإجرام والسلوكيات المخالفة للأعراف والقوانين والارتداد على الذات وتدميرها. ومن خلال الاطلاع على الدراسات العلمية يتبين أن الشخص المحبط يميل إلى العدوانية أكثر من غير المحبط، ومن المتوقع أن ينزع الأفراد إلى التعبير عن إحباطهم بالعدوان والتخريب، والإيذاء الذاتي والخارجي. فإذا كان الإحباط واسع الانتشار، وهو مرتبط بالعدوان كما تبين لنا، فمن المتوقع أن يكون له دور في تفسير شيوع العنف الاجتماعي بصوره كافة.

3 - المخزون اللغوي والإدراكي للعنف:

إن الأفكار والتصورات هي الموجهات الأولى للسلوك. ومن مصادر التشكل الأولى التعليم ومن أهم بذور زراعة العنف الدرس النحوي الأول عن الكلام ومكونات الجملة وما فيها من اسم وحرف وفعل. وجملة «ضرب زيد عمراً» هي مفتاح ذلك كله. هكذا في جملة مجردة، عن الدوافع والأسباب. ضرب زيد عمرا؟؟ يقال أنه نصح أحد الزهاد أن يأخذ دروسا في النحو ليقوم لسانه، واستجاب الزاهد للنصيحة. وكان الدرس الأول الذي بدأ به هذا المثال الراسخ في كتب النحو»ضرب زيد عمراً»، فقال مستغربا، مستهجنا ولماذا يضرب زيد عمرا؟ فقيل له انه لم يضربه حقيقة وإنما هذا مثال خيالي، غير حقيقي. فقال ببراءة «علم يبدأ بالكذب لا حاجة لي فيه». ربما تذكر هذه الحكاية على سبيل التندر، لكنها تعبر عن مخزون لغوي، ينضح بالتعبيرات والمقولات والأمثال التي تزين العنف وسلوكياته. فالمخزون اللغوي اليومي مكتظ بألفاظ العنف والعدوانية: «فالتهديد بتكسير الرأس والأيدي،...» وغيرها من التعبيرات التي نسمعها يوميا في حال الرضا والغضب. وهي في حال الغضب اشد وأقسى. فالتوعد بكافة أشكال العنف والعدوان، تستل من المخزون الإدراكي قريب المنال-في الذاكرة الفعالة القريبة»، وبالتالي يصبح سلوك العنف مبررا عقليا وإدراكياً ويسهل ارتكابه واقعياً.

من الطريف أن الأغاني الوطنية وحتى الرومانسية مثقلة بألفاظ العنف وأحداثه، من تكسير الأضلاع إلى قلع العيون وخراب البيوت....يتوقع من الأغاني أنها تعبير عن مستوى راق من المشاعر الإنسانية والمحبة والشهامة والنخوة، إلا أن عددا من الأغاني المتداولة فيها تعبيرات تمجد العنف الجسدي، وتمهد لارتكابه. «فلا مجال للحوار مع من ينظر إلينا شزراً..، ولكن «نقلع العين إن لدت تلانا». و«نطقطقع عظامه»

إن المخزون اللغوي أو الصورة الذهنية المكتملة، هي عبارة عن مشهد متكامل بالصوت والصورة والحركة، والمكون السلوكي منها قريب المنال. فالمسافة قصيرة جداً بين الانفعال وفعل العنف في ثقافتنا الاجتماعية وتفاعلاتنا اليوميةً. فالدوافع والذخيرة الإدراكية اللفظية موجودة. وكما قالت العرب قديما: «والحرب مبدؤها الكلام». يترافق وجود المخزون الإدراكي اللغوي المشبع بالعنف، بضحالة المخزون المهاراتي والإدراكي السلمي المحفز على الرفق، ونبذ العنف والتعامل مع المواقف الحرجة. فثقافة الحوار والصبر والتأني ضحلة يواكبها نقص في مهارات إدارة الغضب، وحل الصراع. ونتيجة لنقص هذه المهارات فان حلول النزاعات والخلافات وربما آليات ترقيع الذوات المتهتكة المفعمة بمشاعر النقص يكون باستخدام العنف حيث أن مستلزماته ومادته ومهاراته متوافرة. يتعاظم الخطر الحقيقي إذا علمنا، أن منازع العنف يصحبها احتياط واستعداد لمواقف النزاع. فهناك من يحمل الهراوات في سياراتهم، أو يحملون الأسلحة، والأدوات الحادة وما شابهها من أدوات الإيذاء وكأننا في ساحة حرب، وبانتظار المعركة.

4 - تعليم ليس للحياة:

يلاحظ تركيز النظام التعليمي على الجانب المعرفي (المعلوماتي) أكثر من تركيزه على الجوانب السلوكية والمهاراتية. فالطلبة يحملون أطنانا من الكتب ويقرأون آلافاً من الصفحات في 12 سنة دراسية، تثقل كواهلهم وتغرق ذاكرتهم. بالمقابل فإنهم يتلقون القليل مما يمكن أن يكون له دور في حياتهم الاجتماعية والأسرية والعملية. فينشأ فصام بين شخصيات الطلبة وواقعهم الذين يعيشونه، فلديهم القليل من استراتيجيات الحياة والكثير من المعلومات التي قد لا يجدون لها وصلا بحياتهم. والمفارقة في عصر تكنولوجيا المعلومات والاتصال أن أدمغة الطلبة تملا بالمعلومات التي لا يحتاجونها، أو التي قد تتغير أو تفقد صلاحيتها حال تخرجهم أو قبله. من هنا يمكن أن يشعر الطلبة بعبء المدرسة وانه لا فائدة من كثير مما يدرسونه فيها. لقد سألت طالباً كان في الصف الثالث أو الرابع الابتدائي (كما اذكر)، عن المواد المفيدة أو التي يراها ممتعة أو التي يحبها فقال: التربية المهنية والرياضة. وسألته عن باقي المواد فأشار إلى أنها مملة وغير مفيدة. واضح أن الطالب/الطفل قد ذكر المواد التي فيها شيء من النشاط والعملية، ويشير بهذا إلى العبء الثقيل الذي يتحمله الطلبة، والفصام بينهم وبين ما يتلقونه في سنين الدراسة.

ذكر لي زميل أن صديقا له قد هاجر إلى استراليا، وكان لديه عدد من الأطفال في سن المدرسة، وكما هي العادة هنا، فإن هذا الأب كان يشدد على أبنائه في الدراسة ويحثهم عليها، إلى درجة غير معهودة في تلك المجتمعات. ويبدو أن الأطفال اشتكوا للمدرسة من ضغوط والدهم وإلحاحه على الدراسة الزائدة في البيت. فكان أن جاء وفد من المدرسة إلى المنزل ليعطوا الوالد درسا في التربية، طالبين منه الكف عن الضغط على أبنائه، وإنهم في المدرسة يتعلمون ما يكفي. وقالوا له «هل سمعت أن طفلا مات بسبب عدم حفظه لجدول الضرب» أو...ولكن «كم من الأطفال ماتوا بسبب أنهم لا يعرفون كيف يقطعون الطريق، أو لا يعرفون كيف يتعاملون مع الآلات أو مع مصادر الكهرباء...أو لا يجيدون السباحة"، هذه الأمور هي الأولى والأجدى ليتعلمها الأطفال في هذا السن.

والنظام التعليمي عموما يرسخ الفردية والتنافسية والشحناء، سواء في الامتحانات أو الواجبات، ولا يشجع عمل الفريق والنشاطات الجماعية والتي هي من معززات القدرات الفكرية والعلاقات الاجتماعية عند الطلبة. ينشأ من هذه الروح الفردانية تنافسَ وربما تحاسد وتصارع على المنافع والامتيازات النادرة. إضافة إلى أن النظام التعليمي الحالي يفصل بين ما هو فكري وما هو يدوي. فالذين يعملون بأيديهم يلتحقون بالتعليم المهني، والذين يجيدون استخدام الذاكرة ينتظمون في التعليم الأكاديمي. فكل من الفئتين يتعطل قسم من قدراتها ومواهبها؟

وفي نهاية مرحلة التعليم العام يتم فرز جديد مدمر في تأثيراته حيث ينقسم الطلبة إلى فئتين هما فئة الناجحين وفئة الراسبين. وتصبح صفة «توجيهي راسب» ملازمة لمئات الآلاف من الشباب طوال حياتهم. وما أداراك ما هي الآثار النفسية والاجتماعية والسلوكية لهذا الفرز؟ ربما نمتاز نحن بهذه السمة (الوصمة) الاجتماعية التي يفرزها النظام التعليمي؟ هذه ليست دعوة لإلغاء امتحان التوجيهي ولكن دعوة لإعادة صياغة النظام التعليمي ليعمل على إعداد مواطنين صالحين فاعلين مبادرين لعمل الخير وصانعين للتقدم العلمي والاجتماعي لوطنهم.

أما في الجامعات فتتلاقى التناقضات جميعها من ضغوطات حيوية جسدية واجتماعية واقتصادية تلقى بثقلها على الطلبة. الجامعة كما هي المدرسة (إلى حد كبير) تركز على التلقين والتلقي والتعليم ذي الاتجاه الواحد، وبالتالي فإن شخصيات الطلبة لا تزال مفتتة مشتتة لا رابط بينها، ويبقى قسم كبير منها معطل وغير فاعل، مما يجعله قوة كامنة لما ليس بخير. لم تفلح الجامعات في صياغة شخصيات الطلبة بمكونات وسمات العلم والخلق والمدنية والتحضر والأمانة العلمية والروح الوطنية. ذلك رغم إن الطلبة يقضون فيها سنوات عديدة أربعة فأكثر. في حين إن من ينتظم في سلك الجندية يكتسب الشخصية العسكرية والانضباط بوقت اقصر وتستمر معه تلك الشخصية وسماتها طوال عمره. فلماذا تخفق الجامعات في هذا الأمر؟.

وفي غياب الشخصية والانتماء العلمي الفكري فإن النتيجة أن الانتماءات (غير الجامعية) تكون هي المرجعية التي توجه سلوك الطلبة خاصة في حال الخلاف والصراع، والمشاهد معروفة ومتجددة. فالعشائرية التي تتهم أنها وراء سلوكيات العنف والمشاجرات في الجامعات، وما هي بذلك، ولكنها تمثل المرجعية التي يلوذ بها الطلبة، حيث لم تتشكل لديهم لا شخصية جامعة ولا شخصية فكرية أو سياسية يؤولون إليها في ظل الضغوط والتناقضات التي يعيشونها، والتي تمثل سياقات مناسبة لسلوك العنف.

5 - اختلال منظومة القيــم:

يبقى العامل الأهم في توجيه السلوك الإنساني وضبطه، تلكم هي القيم. القيم هي الموجهات والمبادئ الكبرى التي ترسم معادلة الفكر والسلوك الإنساني. فتبين ما هو حق وما هو باطل، ما هو مسموح وما هو ممنوع. وتبين للناس ما هي الأهداف التي تستحق السعي والجهد، وما تلك التي ينبغي العزوف عنها. القيم تمثل خلاصة العقائد والمبادئ الدينية والخبرة الإنسانية وتمثل البناء غير المنظور للتماسك الاجتماعي، والانضباط السلوكي للأفراد وللجماعات. والقيم هي القاسم المشترك بين أعضاء أي مجتمع إنساني، وفق منظومته المرجعية ورؤيته للكون والحياة وتمثل القيم القوة التي تمسك مكونات المجتمع الإنساني أن تتهاوى وتنهار، وتمثل التوازن بين تطلعات الأفراد ومتطلبات المجتمع.

إذا أصاب العطب منظومة القيم، واختلت الموازين، وفسدت النفوس، ونشأت قيم سلبية تمجد الفساد، وتعلي من شأن النوازع الشريرة عند الإنسان، وتؤيد ولو بطريق خفي السلوك المنحرف لتحقيق المآرب والتطلعات والمطامع، في ظل نزعة مادية تسيطر على المجتمع الإنساني. فالنتيجة أن يختل التماسك الاجتماعي، وتتنافر مكوناته، وربما يأكل بعضها بعضا بمقدار القوة والنفوذ والسيطرة. في مثل هذا السياق الاجتماعي تنشأ حالة من الاختلال والتفكك يكون العنف والجريمة والانحراف من مظاهرها البارزة. يمكن القول أن مجموعة كبيرة من القيم قد أصابها العطب، وغاب تأثيرها في السلوك الفردي والمجتمعي، وذلك مثل قيم الإتقان، والعدالة، والمثابرة والنزاهة والعفة، وبذل الجهد، والتسامح، والأخوة، والمحبة، والإيثار، والشعور بالمسؤولية والحياء. وبفقدان فاعلية هذه القيم وقوتها الأخلاقية تهيأت الفرصة للانحراف والفساد.

إن من ابرز مظاهر الخلل في منظومة القيم، هو افتقاد القيم الكبرى للاحترام والقدسية والحرمة. من المعروف أن الدين يجعل للحياة الإنسانية وللنفس الإنسانية قدسية عظيمة، مهما كانت هذه النفس، بعض النظر عن أي تقسيم، ولقد جاء في القرآن الكريم «من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا... ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.." أين ذهبت هذا القداسة التي تعطي للنفس الإنسانية كرامتها وحمايتها وأمنها. ولكن هل لامست هذه القدسية القلوب والعقول؟ كيف ونحن نشاهد النفوس البريئة تتعرض للقتل والتدمير يوميا وفي أكثر من مكان! أين نحن من توجيهات الرسول (صلى الله عليه وسلم)، التي تمنع أن يشار بأي نوع من السلاح على الناس، حتى من قبيل الدعابة والمزاح. فكيف يكون إشهار السلاح بكافة أنواعه سلوكا عاديا عند عدد من الناس. حيث ترى وفي ابسط المواقف كثيرا من الأشخاص يحملون في سياراتهم العصي والهراوات المؤذية، (يتأبطونها شراَ) لاستخدامها في مواقف الخلاف البسيطة.

6 - ضعف منظومة الضبط الاجتماعي والقانوني:

إذا فقد الإنسان الضوابط الداخلية للسلوك وضعفت القوة الأخلاقية القيم والأعراف الاجتماعية، يبقى خط الدفاع الأخير - إلا وهو القانون. وهذا موضوع أساسي وجوهري في الانضباط الإنساني، وفي العدالة. ولكن يمكن القول انه إذا ارتكب شخص جريمة ما وتم الحكم عليه، بناء على النصوص المجرمة، فيجب أن تكون العقوبة رادعه له ولأمثاله. والعقوبة الفعالة في ابسط صفاتها يجب أن تكون مؤكدة وفورية.

العقوبة الفعالة (الرادعة)= مؤكدة + فورية.

فإذا عرف الإنسان انه لن يفلت من العقوبة (التأكيد)، وأنها فورية (الارتباط الزمني بالجرم-الحدث)، فإن الردع ممكن للشخص وللنفوس المريضة جمعاء. أما إذا كانت العقوبة غير فعالة، بل يستمرئها الذين تعودوا عليها، أو الذين يمكن أن يجدوا منافذ تنقذهم منها، عندها تكون العقوبة غير رادعة بل غير ذات جدوى. لا بد من الردع في ظل العدالة، وحتى يكون للعقوبة دورها في الإصلاح والحد من الفساد. أما إذا كانت العقوبة أدنى من المكاسب الجرمية، فأصحاب النفوس الضعيفة والفاسدة، سوف يجدون في ارتكاب الجريمة اخف الضررين، مقارنة بالمكاسب التي سوف يجنونها من وراء انحرافهم وإجرامهم وفسادهم. لا بد من إعادة النظر في كثير من العقوبات خاصة المتعلقة بالجرائم الواقعة على الأشخاص أو الممتلكات أو النظام الاجتماعي العام. لا يوجد ما يبرر لأي كان التنازل والتساهل في الأمن الاجتماعي العام مقابل التيسير على المعتدين والمجرمين وتسهيل الأمر لهم، أو التهاون معهم. عندها تكون قوى الضبط الاجتماعي كلها قد أصابها التلف والعطب وبالتالي يصعب الإصلاح، و"يتسع الخرق على الراقع".

7 - المحصلة: عنف اللحظة وعنف المكان:

السلوك الإنساني مهما كانت طبيعته وشكله فإنه يحصل في سياق من (الزمان والمكان والإنسان). إن عوامل ودوافع العنف على المستويات كافة الكبرى والوسيطة والصغرى، في النهاية تتفاعل في سياق محدد. هذا السياق يشبه الظروف البيئية والشخصية التي تتيح المجال لعوامل وراثية مرضية أن تعمل عملها وتظهر للوجود. أي أن السياقات المكانية والزمانية والظرفية هي في المحصلة البيئة المناسبة التي تيسر أو تعسر ظهور العنف.

بقلم : حمود سالم عليمات

أضف تعليق


كود امني
تحديث