تكمن أهمية إلقاء نظرة موجزة على المراحل الأساسية للنمو الذهني حسب بياجيه في طبيعة الاستقلالية النسبية التي تتمتع بها كل مرحلة من حيث البنيات التي تشكلها والآليات التي تتم عبرها عملية التعلم والاكتساب. فنفس المشكلات تتم مواجهتها ببنيات وآليات متباينة بتباين هذه المراحل النمائية. وقبل عرض هذه الأخيرة، يجدر بنا تحديد مفهوم المرحلة والشروط التي تؤسسها. يشير بياجيه إلى خمسة عوامل أساسية للمرحلة هي:
1 - تعاقب المكتسبات بشكل قار:
ويقصد به ذلك الترتيب الذي تخضع له مكتسبات الفرد في حدوثها. ولا يقصد به الترتيب الزمني الذي قد تستغرقه كل مرحلة، مادام هذا الأخير يخضع لتأثير عدة عوامل منها خبرات وتجارب الفرد ثم غنى أو فقر علاقته مع المحيط الاجتماعي، إلى جانب درجة النضج الطبيعي الذي بلغته العضوية. وكلها عوامل يمكن أن تقصر أو تمدد عمر المرحلة. لكن ما يقصد بهذا الترتيب هو تعاقب السلوكات المكتسبة وفق نظام خاص يجعل بعضها سابقا على الآخر ويدخل في تكوينه. وهذا ما يوصلنا إلى العامل الثاني.
2 - خضوع البنيات لعملية الإدماج:
ويعني أن القطيعة بين مرحلة وأخرى ليست تامة ونهائية، بل بالعكس إن البنيات الذهنية للمرحلة تندمج اندماجا فعليا في البنيات السابقة. فالعمليات التي تنصب في مرحلة الذكاء الحسي الحركي على الإحساسات والحركات- أي الأفعال المادية – تصبح شرطا ضروريا لظهور وقيام العمليات الحدسية أو ما قبل المنطقية في المرحلة الموالية.
3 - الطابع البنيوي للمرحلة:
تشكل كل مرحلة على حدة بنية مستقلة من حيث ميكانزمات عملها. فكل مرحلة تدل على طبيعة العمليات الذهنية التي يمكن أن يقوم بها الطفل مثلا. وكلما تطورت هذه العمليات بتقدم عمره، كلما ازدادت العمليات في التعقيد وصعب علينا حصر احتمالات التركيبات التي تتدخل فيها، وكلما قلت أيضا في الظاهر طبيعة العلاقات التي قد تربط بين هذه التركيبة وتلك.
4 - حدود المرحلة:
يقصد بحدود المرحلة وبشكل نسبي، مستوى بداية تشكل المرحلة ومستوى اكتمالها بحيث رسم بياجيه حدودا متوسطة لبداية المرحلة ولنهايتها. إلا أن ما تجدر الإشارة إليه هو أن هذا التحديد يبقى مرنا نتيجة تدخل تأثير عوامل أخرى كالتنشئة الاجتماعية، وخبرات وتجارب الطفل، ثم درجة نضجه الطبيعي. وهذا لا يمنع أيضا من القول إن مرحلة الذكاء الحسي الحركي مثلا تبدأ منذ الولادة وتستمر إلى حدود الشهر الثامن عشر أو الرابع والعشرين، بعدها يكون الطفل مهيأ للدخول، في مرحلة ثانية لها مميزاتها.
5 - سيرورة تكوين المرحلة:
يميز بياجيه بين سيرورات تشكل أو تكوين المرحلة والسيرورات النهائية للتوازن، ويقصد بالأولى تلك الأشكال التي تتحكم في تمييز المرحلة عن سابقيها والتهيئ للاحقتها، في حين تشير الثانية إلى البنية الكلية التي تميز المرحلة، كما هو مشار إليها في العنصر الثالث. وبعبارة أخرى، تبقى سيرورات التكوين هي تلك العمليات المسؤولة عن تمايز الآليات الذهنية داخل نفس المرحلة، انطلاقا من تكوينها إلى غاية اكتمالها. فهي إذن تخص نمو وتطور هذه البنيات من الداخل.
قبل أن نعرض لأهم المراحل النمائية حسب المنظور التكوينين يجدر بنا التمييز بين جانبين للنمو الذهني، كما يشير إلى ذلك بياجيه فهناك من جهة ما يمكن أن نسميه بالجانب السيكولوجي –الاجتماعي، أي كل ما يتلقاه الطفل من الخارج وكل ما يتعلمه نقلا عن الأسرة والمدرسة والتربية بصفة عامة، ثم هناك ما يمكن أن نسميه بالنمو العفوي، والذي أنعته بالنمو النفسي إيجازاً، وهو نمو الذكاء نفسه، أي ما يتعلمه الطفل بنفسه(تلقائيا) ولم يتعلمه من غيره، بل وما يكون مضطرا أن يكتشفه وحده (بوسائله الطبيعية). وهذا أساسا ما يستغرق زمنا طويلا. إنّ هذا النمو العفوي هو الذي يكوم بالضبط الشرط المسبق، البديهي والضروري للنمو السيكولوجي- الاجتماعي". تلخص هذه الفقرة تمايز البنيات السيكولوجية أو الذهنية عن التأثيرات الاجتماعية التي يخضع لها الطفل، ويميز بياجيه بين أربعة مراحل نمائية للبنيات الذهنية نوجزها فيما يلي:
1 - مرحلة الذكاء الحسي الحركي:
تمتد هذه المرحلة تقريبا حتى السنة الثانية. ويلاحظ أن الرضيع يمارس نشاطا حسيا حركيا يتكون من خلال عمليتي الاستيعاب والتلاؤم مع مقتضيات المحيط. فالذكاء من هذا المنظور هو تنسيق لوسائل وأدوات تمكن من بلوغ هدف لا يمكن الوصول إليه مباشرة ما دام هناك حاجز يحول دون ذلك، أو مشكلة تواجهنا أثناء محاولتنا. ويمكن القول إن العمليات الحسية والحركية هي صلة الوصل بين الذات والمحيط أثناء الاحتكاك بينهما. وتبقى مرحلة ضرورية في بناء وتكوين البنيات الذهنية للمرحلة اللاحقة. وبمعنى آخر، يتوجب على الطفل أن يقوم بتنفيذ مجوعة من الأفعال المادية والواقعية قبل أن يقدر على جعلها موضع تفكير.
ولعل ما يميز أيضا هذه المرحلة ذلك التمركز حول الذات الذي ينفي وجود مكان مستقل عن ذات الطفل أو وجود أشياء بالنسبة له، إذ أنها امتدادا لذاته وغير متميز، فالأشياء والمواضيع عبارة عن سلسلة من الأماكن غير المنسجمة والتي تتمركز حول ذات الطفل. فعندما ينظر طفل خمسة أشهر إلى لعبة مثبتة فوق سريره أو يسمع الصوت الذي يصدر عنها أو عندما يلمسها بيده... فإنه لا يربط بين هذه الأفعال الحسية الحركية، مادام لا يدرك أن نفس اللعبة التي ينظر إليها تصدر صوتا أو لها ملمس معين.
2 - مرحلة الذكاء ما قبل العمليات المشخصة:
تستهل هذه المرحلة بالتكلم وتصل إلى حدود سبع سنوات. ويعتبر بياجيه ظهور التكلم بمثابة" ثورة كوبرنيكية" لما يحدثه من تغير جذري في تمثلات الطفل. فوظيفة التكلم واللغة عامة تسمح له بتمثل شيء بواسطة شيء آخر، وهذا ما ينعته بالوظيفة الرمزية. إن هذه القدرة لهي التي تجعل التفكير ممكنا لدى الطفل.
ويمكن نعت هذه المرحلة أيضا بمرحلة الذكاء الحدسي ما دام الطفل يصدر أحكاما أو يقوم بأفعال غالبا ما تأخذ بعين الاعتبار البعد الواحد، وتغفل أبعادا أخرى للشيء أو الموضوع المدرك. فعندما كان بياجيه يقدم قطعتين من العجين هما متساويان من حيث جميع الأبعاد ثم يقوم بتغيير شكل القطعة الأولى، بحيث تصبح أطول من الثانية، كان يسأل طفل السنة الخامسة: هل يوجد من العجين في القطعة الأولى بقدر ما يوجد في القطعة الثانية؟ فكان جواب الطفل بالنفي طبعا، "مستدلا" مادامت القطعة الأولى أطول فهي أكثر وزنا. أوردنا هذا المثال لكي نوضح الطابع الحدسي الذي يميز هذه المرحلة ويجعل الطفل يغيب أبعادا أخرى للموضوع. ونفس الطفل في سن السابعة سيجد السؤال غريبا ومبسطا بحيث تبدو عليه ابتسامة عريضة، إذ لن يجد أية صعوبة في القول بتساوي القطعتين، فعلى الرغم من اختلاف في الشكل، ما دمنا لم نضف أو ننقص أي شيء. ومعنى هذا أنه تمكن من مجموعة من الآليات الذهنية كالانعكاسية أو التعدي.
3 - مرحلة الذكاء المشخص:
تمتد من السنة السابعة إلى حدود السنة الثانية عشرة، خلال هذه المرحلة يصبح الطفل قادرا على إعمال منطق معين، مادام هذا المنطق لا يعالج القضايا اللغوية أو المجردة، بل يكتفي فقط بمعالجة الأشياء المحسوسة. وإذا كانت هذه المرحلة تتطابق والفترة التي يقضيها الطفل في المدرسة الأساسية، فمعنى هذا أن الطفل يكون خلالها قادرا على القيام بمجموعة من العمليات كالترتيب والتصنيف والانعكاسية والعلاقات، والأعداد، لكن في ارتباطها بما هو عيني ومشخص. فلم يرق بعد إلى التعامل مع الفرضيات. ويعطي بياجيه مثالا حول القدرة على التصنيف عندما نعطي للطفل مجموعة من القضبان من أطوال مختلفة ونطلب منه تصنيفها من الأصغر إلى الأكبر. أكيد أن طفل ما قبل السابعة يقوى على إنجاز ذلك، لكن بشكل تجريبي (إمبريقي) أي عن طريق المحاولة والخطأ. وعلى العكس من ذلك، فابتداء من السنة السابعة، يصبح الطفل قادرا على خلق منظومة أو نسق، في حين أن نفس الطفل يعجز عن حل مشكلات تطرح قضايا لغوية، كما هو الحال بالنسبة لهذه المشكلة التي يطرحها بياجيه والتي تستلزم نوعا من الاستدلال غير المباشر "يتعلق الأمر بثلاث فتيات يختلفن من حيث لون شعرهنّ والمطلوب إيجاد من فيهن أكثر سمرة. "إديت" أكثر بياضا من "سوزان" وهي أيضا أكثر سمرة من ليلي، فأيهن أكثر سمرة من الأخرتين؟ يجب انتظار السنة الثانية عشرة قبل أن يقدر الطفل على حل المشكلة.
4 - مرحلة الذكاء المجرد:
تمتد من السنة الثانية عشرة إلى حدود السنة الخامسة عشرة. ولعل ما يميز هذه المرحلة هو قدرة الطفل على التخلص من المحسوس أو العياني، بل إخضاع هذا الأخير إلى مختلف التغييرات الممكنة. إن المراهق يصبح قادرا على التعامل مع الفرضيات والاستدلال على القضايا اللغوية دونما حاجة إلى ارتباطها بما هو واقعي. إن هذه المرحلة تشكل إذن بداية التفكير الفرضي الاستنتاجي.
المصدر: سلسلة التكوين التربوي؛ خالد المير وإدريس قاسمي (بتصرف)