«يا بني: من يعرف من أين؟.. من يعرف إلى أين؟»، كلمة قالها أحد الحكماء لابنه، وهو يحاوره، من خلالها تتحدد الفلسفة الكامنة وراء السلوك، والتصور المحرض على الفعل، والرؤية الدافعة للعمل.

يعتقد محللو النظم أن هناك نقاط حاكمة في أي نظام تعليمي، إذا حدث أي تغير فيها فإن ثمة تغيرات دراماتيكية ستطال بنية النظام، وستؤثر في النظام برمته... إنها الفلسفة التي منها ننطلق، وإليها نعود..منها ننطلق في بناء مناهجنا الدراسية، وإليها نعود من جديد إذا ضلت خطانا عن نقطة البداية... إنها سر التقدم للأمام، يقول مارك توين: إن سر التقدم للأمام هو معرفة نقطة البداية، وكما قيل: إذا ضلت القافلة وسط الصحراء، وتعذر عليها متابعة المسير، فلا عليها إلا أن تعود إلى نقطة البداية لتستأنف رحلتها من جديد.

فالفلسفة تمثل الجذور الفكرية والأطر المرجعية والأنساق القيمية التي يؤمن بها مجتمع ما ويعيش عليها... إنها الرؤية، والمعنى.. المعنى الكامن المتضمن في عملية التعلم والتعليم، والمعنى الكامن وراءهما أيضًا.

إن وجود هذه الرؤية التي يجد طلاب العلم من خلالها الإجابة عن الأسئلة الخالدة التي تلح على أدمغتهم منذ نعومة أظفارهم وهي : من أين؟ وإلى أين؟ وكيف؟ ولم؟، هي التي تعكس النظرة الشاملة المتكاملة للمجتمع حيال كبريات القضايا الخاصة بالألوهية والكون والإنسان والحياة، وما بينها من علاقات وارتباطات، وما ينبثق عنها من تصور اجتماعي.

إن وجود هذا التصور هو الضمان الوحيد الذي يحفظ الأجيال من الشعور بأنهم مجرد فلتة في هذا الكون، لا تدري من أين جاءت، ولا إلى أين مصيرها.. إنه المعنى من وراء كل الممارسات التربوية التي تدور رحاها داخل أروقة التعليم.

بيد أننا مازلنا نتعامل مع قضية بناء مناهج التربية في بلادنا العربية- على مستوى الحوار والنقاش، وعلى مستوى الواقع المعيش – كمن لديه شجرة هزيلة ذابلة، تتساقط ثمارها المرة المعطوبة، فأخذ يهذب أغصانها، ويشذب أوراقها، وينظف ثمارها، ظنًا منه أن هذا سيعالج ضعفها البادي، ويمنع سقوطها الوشيك، دون أن ينظر إلى جذع الشجرة المنخور، ولا إلى جذورها الممتدة في التربة البور.

لقد أضعنا زمنًا طويلاً نناقش جزئيات القضية وأطرافها المختلفة دون تدبر عميق لإطارها الشامل وأصولها الكلية. فمنا من عاب المناهج المحشوة بالمعلومات والمعارف التي لا قيمة لها في عصر التفجر المعرفي، ومنا من رأى أن المعلم هو حجر الزاوية ولا يصلح التعليم إلا بإصلاحه، وثالث تكلم عن المباني المتهالكة وعن تمويل التعليم، ورابع تحدث عن الدروس الخصوصية ومجانية التعليم، وخامس ركز على ازدحام الفصول الدراسية بالتلاميذ،والتسرب، وعدم استيعاب الملزمين...إلخ. والمؤكد أن هذه كلها وغيرها هي الثمار العفنة، والنتاج الرديء لأصول مغروسة في أرض غير صالة للاستنبات.

نحن في حاجة إلى أن نسأل أنفسنا أولًا: من نحن؟ وماذا نريد أن نكون؟ وأن نجيب عن هذين السؤالين. فالإجابة عنهما توضح لنا فلسفتنا الاجتماعية الشاملة أو عن تصور متكامل لحقائق الألوهية والكون والإنسان والحياة، وما ينبثق عنها من فلسفة تربوية. إنها بداية أي إصلاح حقيقي، فضلًا عن أن يكون هذا الإصلاح متصلًا بعملية حاسمة في بناء البشر وبناء المجتمعات الإنسانية كمناهج التربية والتعليم (علي أحمد مدكور 1993: منهج التربية، أساسياته ومكوناته، القاهرة، الدار الفنية).  

الفلسفة التي نريد:

إن أية فلسفة لا تستحق أن توصف بأنها فلسفة ما لم تكن معنية ببيان موقفها حيال حقائق الألوهية، والكون، والإنسان، والحياة. على أن الفلسفة التي تتسق مع قناعاتنا الفكرية عند معالجة هذه الحقائق هي كالتالي:

♥ حقيقة الألوهية :

باعتبارها الحقيقة العميقة، والحقيقة الكبرى في هذا الوجود، وذلك من خلال آثارها الفاعلة في الكون، وفي النفس البشرية، وفي واقـع الحياة، مع بيان الفرق بينها وبين حقيقة العبودية التي تنتظم كل شيء وكل حي.

♥ حقيقة الكون:

وذلك من خلال التأكيد على أنه مخلوق حادث، وأنه لم ينشأ من ذاته، بل أنشأه الله، مع بيان أن هناك كونًا مشهودًا، وكونًا مغيبًا، وأنه كون طائع لربه، عابـد لمولاه، وأنه مقدر ومسخر، ومخلوق بحكمة، ومخلوق لغاية، وأن كل شيء فيه بحساب دقيق ليؤدي وظيفته، ويحقق الغاية من خلقه، وأنه كتاب الله المفتوح، وأنه المصدر الثاني للمعرفة بعد الوحي، وأنه كون صديق للحياة والأحياء وليس عدوًا لهم، فقد أعده خالقه لاستقبال الحياة وحضانتها وكفالتها.

♥ حقيقة الإنسان:

وذلك من خلال بيان مصدره، ووظيفته في الحـياة، ومركزه في الكون، وحدود اختصاصاته، ودائرة سلطاته، وغاية وجوده الإنساني، مع تأكيد النظرة إليه باعتباره خليفة لله، لعمارة الكون، وترقية الحياة على ظهر هذه الأرض وفق منهج الله، مع بيان تكريم الله له، وأنه مفطور على الإيمان، مصمم على قاعدة الزوجية، وأنه مخلوق من ماء، وأنه ينطوي على قبضة من طين الأرض، ونفخة من روح الله مع تأكيد الأخوة الإنسانية الجامعة لكل البشر.

♥ حقيقة الحياة:

وذلك ببيان أن الحياة أو الطبيعة ليست إلهًا، وأن الحياة مقدرة أقواتها في بنية الأرض، وفي نظام الكون، وأنها مخلوقة من أصل واحد هـو الماء، وأنها قائمة على قاعدة الزوجية، والأمم المنظمة، وأن الأحياء في عبادة لله، وأن الحياة دنيا وآخرة، شهود وغيب، وأن مصير الإنسان في الآخرة متوقف على نشاطه في الدنيا.

الفلسفة وصاروخ المعارف:

على صعيد العلوم والمعارف كان النظر – ولازال – إلى الفلسفة باعتبارها أم العلوم، وفي نموذجه الرائع «صاروخ المعارف Rocketofknowledge» يضع د.أحمد شوقي الفلسفة في غرفة التحكم، التي تحدد مسار، ومقاصد صاروخ المعارف البشرية.

الشيء الرائع أنه يعرض هذا النموذج وهو يطالب بإلحاح نقده أو نقضه، ففي كل خير إلا أنه يصر على ملمحين من ملامح النموذج وهما:

- المحافظة على العلاقات البينية بين كل المعارف.

- الاحتفاظ بالمجموعة الأولى في المقدمة، لأنها مجموعة الرؤية الشاملة التي تمكن البشر من إبداع مستقبلهم باستخدام المجموعات الأخرى.

وهذه المعارف هي:

   1 – إبداعية (روحية): فلسفة وعلوم دينية – فن – أدب.

   2 – رياضية (نظرية): حساب – جبر – هندسة.

   3 – طبيعية (تجريبية): فيزياء – كيمياء – بيولوجيا.

   4 – تطبيقية (تكنولوجية) زراعة – صناعة – طب.

   5 – إنسانية (متجاوزة): سياسية – اقتصاد – اجتماع.

   6 – إنسانية (حافزة): جغرافيا – تاريخ – أنثروبولوجيا.

وهكذا نلاحظ أن الفلسفة مع العلوم الدينية في مقدمة الصاروخ ضمن المعارف الإبداعية، لتقوم بتوفير الرؤية الشاملة لمستخدمي المعارف الأخرى. (أحمد شوقي، العلم ثقافة المستقبل، 2001، ص: 59 – 60).

الفلسفة هي الدماغ:

 إن جاز لنا – ونحن نتحدث عن أبحاث الدماغ – أن نعرض لفلسفة التعليم باعتبارها الدماغ المغذي لعملية التعليم برمتها، فإننا لم نتجاوز الحقيقة في ذلك، وكما أن الإنسان إذا أصيب بعطـب أو اضطراب في دماغه، فإنه يفقد السيطرة والتحكم في كل شيء، فكذلك الحال بالنسبة لفلسفة التعليم. وهو ما يؤكده تقرير مراجعة استراتيجية التربية العربية.

يشير التقرير إلى وجود خلل واضطراب في الدماغ المغذي للعملية بكاملها، ويقصد بذلك الفلسفة التربوية، ويستمر التقرير ليؤكد عدم ارتباط الفلسفة – إن وجدت – بالمجتمع وقضاياه، ورؤاه التربوية، مع تأكيد التقرير – أيضًا – غموض الفلسفة وعدم استجابتها لحاجات المجتمع (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 1995ص: 92). إن غياب الفلسفة والرؤية يعني غياب الدماغ المغذي للعملية التعليمية برمتها، أو وجود خلل واضطراب في ذلك الدماغ على أحسن الأحوال، حسبما أشار إليه التقرير السابق.

ويؤكد بعض المفكرين خطورة استنساخ النمط الغربي في مؤسساتنا التربوية، نظرًا لاختلاف السياق الاجتماعي، حيث إن العملية التربوية، ليست بضاعة تصدر إلى الخارج. أو تستورد إلى الداخل كالمصنوعات أو المواد الخام، وإنما هي لباس يفصل على قامة الشعوب. وملامحها القومية، وتقاليدها المرموقة، وأدلتها المفضلة، وأهدافها التي تعيش عليها، وتموت في سبيلها. ( أنور الجندي : د. ت).

إن خطورة عدم وجود فلسفة واضحة، تحدد معالم الطريق، وترسم منهج العمل قد أساء إلى عملية التعليم برمتها، وأفقد المعلم والمتعلم، بل وكل المعنيين بالممارسات التربوية داخل أروقة التعليم، أفقدهم وجود الحافز القوي، والباعث الحثيث للاستنجاد بأقصى طاقات ذكائهم، واستنفار آخر قوى ذهنهم، وشحذ جميع قدرات عقولهم، لتقديم إبداعاتهم، وطرح كل جديد ونافع لتجويد عملية التعليم.

إننا على يقين من أن كل سلوك يصدر عن الإنسان لا بد أن تكون وراءه فكرة تقود إليه، وفلسفة تحض عليه، وكذلك الحال بالنسبة للدماغ، فالدماغ لا يبدع إلا في ظل وجود فلسفة تدفعه للخروج في أفكاره على المألوف.

«فالإنسان لا يبدع للا شيء، والإبداع ليس إفرازًا طبيعيًا لا إراديًا وليس شيئًا أشبه بالنتح في النبات، إن الإنسان لا يبدع ما لم تتوفر له رؤية حياتيه مستقبلية يسعى إلى تحقيقها». (حسين مسلم، 1994، ص: 231).

غياب الفلسفة وإشكالية فقدان المعنى:

إن فقـدان المعنى من وراء الأشياء التي نتعاطى معها لا يشعرنا بوجودها أو قيمتها، وفي كثـير من الأحيان يتسبب في ضياعها منا، وليس أدل على ذلك مما يفعله أولئك الذين يقدمون على الانتحار، ويتسببون في إزهـاق أرواحهم لشعورهم بالخواء الروحي، وفقدانهم المعنى من الحياة.

لقد نشرت مجلة «روزاليوسف» وهي مجلة لا تتهم بالتحيز للمعنويات والقيم الروحية – تحقيقًا صحفيًا في مقالين منذ سنوات، جعلت عنوانه: «أهل الجنة ليسوا سعداء»، وأهل الجنة الذين تعنيهم المجلة هم سكان السويد، الذين يعيشون في مستوى اقتصادي يشبه الأحلام، ولا يكاد يوجد في حياتهم خوف من فقر أو شيخوخة أو بطالة، أو أي كارثة من كوارث الحياة.

ومع وجود الضمانات التي لم تدع ثغرة إلا سدتها، فقد ذكرت المجلة أن الناس يحيون حياة قلقـة مضطربة، كلها ضيق وتوتر، وشكوى وسخط، وتبرم ويأس. ونتيجة هذه أن يهرب الناس من هذه الحياة الشقية النكدة عن طريق الانتحار، تخلصًا مما يعانونه. وانتهى كاتب التحقيق إلى أن السر وراء هذا الشقاء يرجع إلى أمر واحد هو فقدان المعنى.

المراجع:

- أحمد شوقي (2001): العلم ثقافة المستقبل، القاهرة، مهرجان القراءة للجميع، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

- أنور الجندي (د. ت): تأهيل مناهج العلوم والدراسات الإنسانية إلى مناهج الفكر الإسلامي الأصيل، بيروت، المكتبة العصرية.

- حسن مسلم (1994): وضع مقياس للإبداع في اللغة العربية لطلاب الحلقة الثانية من التعليم الأساسي، رسالة ماجستير (غير منشورة) كلية التربية، جامعة الزقازيق.

- علي أحمد مدكور (1993): منهج التربية، أساسياته ومكوناته، القاهرة، الدار الفنية.

- المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (1995): تقرير مراجعة استراتيجية تطوير التربية العربية، تونس.

                                                  بقلم : عبد اللطيف عبد القادر أبو بكر

 

أضف تعليق


كود امني
تحديث