لقد حظيت التربية باهتمام كبير من لدن لفيف من الباحثين و المهتمين بمجال التربية. فاختلفت بذلك الاراء و تباينت المواقف فيما يخص مفهوم التربية. و لعله تباين مقبول، يبرزه مجال التربية الواسع، والمعقد، و الذي يزيد من تعقيد شأنه، الشروط الثقافية، و الاجتماعية، و البيئية، و التربوية المتحكمة بشكل أو بآخر في كل اتجاه أو مسلك أو مذهب من المذاهب التربوية. لكن و بعيدا عن هذه الاتجاهات ذات المنحى الفلسفي، و درءا للتعقيدات التي أحاطت و لازالت بمفهوم التربية، يمكن القول بكيفية بسيطة إن التربية هي القيم أو قل، هي تنشئة الفرد على التحلي بالقيم. و من أجل ضبط هذه القيم في بعدها النظري ألمفاهيمي، كان لزاما أن تندرج في سياق إطار مرجعي يسهل تداولها، و فهمها، من خلال عملية تواصلية، و ذلك عبر خطاب اتصالي يسمى الخطاب التربوي، الذي يعد حمالا أو حاملا لهذه القيم كبنية مفهوميه مجردة. و على هذا الأساس و إذا كانت التربية هي اكتساب القيم، فإن الخطاب التربوي يشتغل على هذه القيم و بمعنى أدق، فهو رسالة نصية حاملة للقيم كمادة، إلى مرسل إليه، من قبل مرسل يسعى إلى تحقيق أهداف تربوية مخصوصة.

و الملاحظ في هذا الشأن أن الأهداف التربوية في بعدها النظري، مفاهيم نظرية مجردة، يغص بها الخطاب التربوي و ترسل عبر قنوات مختلفة، فتلتقط أو قد لا تلتقط. لكن الحقيقة الجوهرية الثابتة أن معاني هذه المفاهيم و دلالاتها تظل حبيسة الخطاب، تتمتع بقوتها النظرية و بريقها ألمفهومي، بعيدة كل البعد عن إصابة الهدف، أو الأهداف المتمثلة في إحداث الأثر المنشود. و التغيير المطلوب. و هذا يمثل عجزا صراحا للخطاب التربوي الذي ظل لأمد بعيد و لازال يتجشم مهمة إرسال هذه القيم، مما يؤكد و يصدق أنه قد نجح و إلى حد بعيد في تحقيق الوظيفة الإبلاغية، لا التأثيرية و ذلك من خلال الالتزام بنشر قيم التربية عبر وسائط مختلفة لاسيما المدرسة باعتبارها الوصي الشرعي على الخطاب التربوي الذي يعد عصبها، و مركز وظيفتها، بل عين وجودها. و من منطلق الوصاية التي تتمتع بها المدرسة على الخطاب التربوي، وذلك بحكم العلاقة القوية بينهما. ظلت المدرسة تناضل و بقوة من أجل تحقيق أهداف الخطاب التربوي، و ذلك من خلال فتح باب الاجتهاد التربوي ذي النتائج التراكمية، الرامي إلى تحقيق فتح تربوي من شأنه ترسيخ القيم التربوية.

لكن و استقراء للواقع التربوي، يبتدئ جليا أن حركته تسير بطريقة نشاز مع محتوى الخطاب التربوي. و بمعنى أوضح، فإن الواقع له قيمه الخاصة به، أنتجها خطاب قوي مضاد، يسهر على حمايتها و لا يقبل بوجود خطاب آخر،مضاد له. ورب سائل يتساءل، لماذا، لم يفلح خطاب يتضمن قيما أصلية. حمل على عاتقه منذ أمد بعيد رسالة سامية هدفها التقويم، و ذلك عبر الوسيط الرسمي، المدرسة المالكة لسلطة التأثير؟ هل الأمر يرتبط بالرسالة أم بالقناة أو هما معا؟

من الجدير بالذكر في هذا السياق أن دور الخطاب التربوي الحاضن أو الحامل للمفاهيم ينحصر في الإبلاغ. في حين تتولى الوسائط المهتمة بالشأن التربوي أمر التصرف في هذه المفاهيم، عبر نشر مضامينها و معانيها بالطرق التربوية المجدية، و ذلك باعتماد الأساليب القادرة على احتواء المفهوم التربوي النظري المجرد، و العمل على تحويله إلى معطى واقعي سلوكي ملموس. إذ، إذا كانت المفاهيم تبني لدى الإنسان الثقافية النظرية أو القدرة النظرية، بما يحصله من خبرات نظرية تختزنها الدوال، فإن السلوك أو الممارسة، يصنع لديه الخبرات العملية أو ما يسمى "ثقافة السلوك و الممارسة" القائمة حصرا على قدرتي الممارسة و التجربة. و معنى ذلك أنه ينبغي ترجمة المفاهيم القيم إلى سلوكيات عملية. وبمعنى أصح يتوجب إدماج المفاهيم في السلوك. و هذا يقتضي إرفاق الجانب الابلاغي للخطاب بجانب تطبيقي يعالج المفاهيم بشكل عملي سلوكي يجعلها نشاطا تنتمي لجسم الحياة. و لعله الحلقة المفقودة، المغيبة في نسق التربية بكيفية مجردة بعيدا عن ملامسة الواقع الذي يجسد و بحق عمق أزمة الخطاب التربوي. إن مفهوم التكافل الاجتماعي كدال، يظل بنية مجردة مبهمة لا يستطيع الذهن و لا يقوى على إدراك حقيقتها، و تمثلها إلا إذا شخصت سلوكا، و تمثيلا. و مسألة التمثيل تتطلب ممارسة التكافل الاجتماعي كنشاط حقيقي على الأرض، معاينة، فمشاركة، قصد الاطلاع على فضائله، و مقاصده، ومزاياه، إذ بصيغة المشاركة و التجسيد يسهل على المرء دمج قيمة التكافل الاجتماعي و غيرها من القيم في سلوكه الحياتي.

و بخصوص مفهوم المواطنة التي تعد من بين القيم الفاضلة التي تؤثث الخطاب التربوي، فإنها ذات معنى هلامي يصعب على الإدراك تمثل حقيقتها و فهم طبيعتها مهما قيل عنها. والعلة في ذلك، أن حقيقتها ظلت مخبوءة خلف الجدران الإسمنتية للمفهوم، الذي لم يتحول بكيفية تربوية مناسبة إلى سلوك عملي، يخرجه من العتمة إلى الضوء، حتى تنكشف حقيقته للأفهام الجاهلة،فتتفاعل معها عقليا و وجدانيا و نفسيا من خلال الممارسة و التجربة. و ذلك لأن المواطنة ليست مفهوما مجردا تستهلكه اللغة كشعار، بل المواطنة حقيقة عملية ينجزها السلوك اليومي في سياق ثقافة تبدأ بالأفراد فتغزو الجماعات. و تتجلى المواطنة كسلوك عملي، في التفاعل الإيجابي البناء مع كل قضية من قضايا الوطن. إنه تفاعل لا يمكن أن يستقيم حاله، إلا إذا  أدرك الفرد بالتجربة و السلوك و الممارسة والخبرات المتراكمة المقنعة، القيمة الاعتبارية للوطن، من خلال معطيات يقينية صادقة تصنع لديه ذخيرة ثقافة السلوك المواطن، إذ يتحول الفرد بموجبه من شخص يكون بذاته كلا كاملا و منعزلا إلى جزء من كل أكبر، ألا و هو الوطن، يتلقى منه هذا الفرد حياته و كيانه.

و على هذا الأساس ينبغي التأكيد على أن الاهتمام بالسلوك كقاعدة عملية موازية في مجال التربية هو الأسلوب الامثل و الناجح و الناجع الكفيل بتجاوز أزمة الخطاب التربوي الذي يعيش تنافرا صريحا بين المفهوم و السلوك. يقول الدكتور إدريس  بالمليح: "إن وظيفة المفهوم كبنية دلالية ذهنية مجردة تنحصر في عملية الإثارة والتنبيه، أي لفت انتباه الذهن و توجيهه إلى شيء مخصوص. بينما التشخيص الدلالي يوكل إلى السلوك الاختباري القادر حقا على جعل المفهوم، صورة حية واقعية خارج حدود الذهن مما يسهل عملية التفاعل الذهني و تحرك القابلية نحو الاستيعاب لدى الأشخاص."  

وعلى هذا الأساس يمكن القول إن التربية ليست مطلقا مجرد معرفة تنحصر في بعدها النظري المجرد إنما هي تطبيق لهذه المعرفة  كمنظومة قيمية وتحويلها إلى سلوك عملي ليصبح ممارسة حياتية لدى الفرد. ونظرا لأهمية الجانب السلوكي العملي في التربية كان حاضرا وبقوة في الوعي والفكر التربويين فأرسطو يعد الخير كقيمة ،ضربا من ضروب الكفاية العملية أو ضربا من التفوق أو الامتياز في السلوك أكثر من اعتباره حالة من حالات العقل. أما ابن خلدون فيرى أن خير وسيلة للتربية الخلقية هي القدوة الحسنة. إذ الإنسان يأخذ بالتقليد والمحاكاة أكثر مما يأخذ بالنصح والإرشاد. ولعل ما يدل على عمق هذا الوعي ما ورد في كتاب وجهه إلى معلم ابنه، عمر بن عتبة، يقول فيه: "ليكن إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك فان عيونهم معقودة بعينك فالحسن عندهم  ما صنعت والقبيح عندهم ما تركت. 
ومن الملفت لانتباه في هذا السياق أن ما كان يشغل هيباس الأكبر قي معرفة الجمال، أن يتجسد المفهوم في فتاة أو تمثال أكثر مما كان يشغله المفهوم في ماهيته  من حيث شكله أو صورته.

يتبدى من خلال هذه التجليات أن الفكر الكلاسيكي إن صح التعبير، كان واعيا ومهتما إلى حد بعيد بالجانب السلوكي في التربية. بينما نظيره الحاثي يهتم ويزداد اهتماما  بالنظرية والمفهوم، الشيء الذي يجعل العلا قة بين المفهوم والممارسة غير متوازنة من جهة، وتبعد التربية عن أداء وظيفتها الأساس، المتمثلة في السلوك المنجز للفعل التربوي من جهة أخرى. وذلك لان الخطاب التربوي فعل انجازي متى توافرت له شروط الانجاز على رأي أهل نظرية أفعال الكلام.

إن الوصول إلى سلوك سوي،تزكيه الأخلاق الفاضلة ،إنما هي صنعة التربية ،وصناعة التعليم. إنها صنعة إنسانية أخلاقية ميدانية سلوكية، يعجز المفهوم النظري المجرد الذي من شانه السهر على انجاز وتدبير القول التربوي، عن تحقيقها (الصنعة) وذلك بمعزل عن السلوك العملي الذي من اختصاصه انجاز الفعل التربوي.  

بقلم : محمد الصفاح 

أضف تعليق


كود امني
تحديث