إزاء مظاهر العنف المرعب، والكوارث الدموية، التي تشهدها المدرسة في مختلف أنحاء العالم المعاصر تطرح المسألة التربوية نفسها موضوعاً للبحث والمناقشة في خضم التحديات الكبرى التي يواجهها العصر الذي نعيش فيه. فمما لاشك فيه أن ظاهرة العنف التربوي تستحق مزيداً من المحاولات العلمية والبحثية التي يمكنها أن تحدد لنا طبيعة هذه الظاهرة وخلفياتها الفكرية والمجتمعية. وفي إطار البحث عن خلفيات هذه الظاهرة يجري التركيز اليوم على مسألة اللا مساواة الاجتماعية دورها الكبير في إحداث الخلل وتغييب الأمن المدرسي بصورته المعنية.‏

 ومن أجل أن نضع إشكالية العنف التربوي في سياقها المجتمعي يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن الخيارات التربوية لا تأخذ طابعاً حيادياً، لأن الخيارات القائمة في التربية هي خيارات سياسية في أغلبها. وبالتالي فإن هذه الخيارات تتحدد وترتسم هويتها في طبيعة التجاوب التربوي مع الغاية الإنسانية للتعليم والتربية. فالسؤال الكبير الذي يطرح نفسه بقوة عبر تاريخ التربية هو: ماذا ننتظر من التعليم وما غايته؟ وبالطبع فإن الإجابة عن هذا السؤال الوجودي للتربية تتحدد بمتغيرات عديدة، وتتنوع بتنوع الوضعيات الاجتماعية والفكرية. فالإجابة التي تُعطى لهذا السؤال ترتسم بمنظومة من العوامل الذاتية التي تتعلق بالدور والموقع الذي يشغله الفرد في دائرة الحياة الاجتماعية، وتتحدد في ضوء التجارب التي يعايشها وتتأثر بالانطباعات الشخصية التي ترتسم في وجدانه، وبالحاجات الأساسية التي يمكن للتعليم أن يفي بها عبر دورته التربوية. وهنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أيضاً العوامل المجتمعية التي تتعلق بالانتماء الاجتماعي والجنس والعرق والقومية والطبقة الاجتماعية واللغة ومكان الإقامة والسكن. وغالباً ما يركز الباحثون، في مجال العلوم الإنسانية، على أهمية العامل الطبقي بين مختلف العوامل المجتمعية الأخرى، وذلك لأن الطبقة الاجتماعية، كما يجري الاعتقاد، تلعب دوراً محورياً في عملية الخيار التربوي، وفي ترسيم الإجابة عن السؤال المركزي الذي يُطرح حول وظيفة التربية وغاياتها الكبرى.‏

 فالطبقات التي تهيمن وتسود في الساحة الاجتماعية تنظر إلى الغايات التربوية من منظورها الطبقي وفقاً لمصالحها الاجتماعية، حيث ترى أن التربية يجب أن توظف في المحافظة على الأوضاع القائمة للحياة الاجتماعية، لأن هذه الأوضاع تجسد الأبعاد الاجتماعية لحياة الطبقات السائدة في المجتمع، وهكذا فإن التعليم يوجه توجيهاً طبقياً لخدمة مصالح هذه الطبقة التي تهيمن أو تلك التي تسود. فالتعليم الإلزامي على سبيل المثال يشكل أداة هذه الطبقة في عملية الإنتاج وإعادة الإنتاج الثقافي والاجتماعي، وتأسيساً على هذا المنظور الطبقي يمكن تحديد ثلاثة أسباب لأهمية هذا التعليم في منظور الطبقة البرجوازية :


- إنه يشكل أداة تنشئة اجتماعية حيوية في المجتمع حيث يتعلم الناس كيف يعيشون ويتمثلون القيم الاجتماعية الضرورية للحياة والاستمرار في مجتمع محدد.‏

- يشكل أداة الطبقة السائدة في تأصيل أيديولوجيتها والقيم السياسية التي تعمل على تأصيلها وتعززيها وهذا ما يؤكده علماء الاجتماع النقديون مثل بورديو وبودون وفرايري وغيرهم كثير.‏

- يوظف التعليم في بناء رأس المال الإنساني أي اليد العاملة الماهرة القادرة على تلبية احتياجات المجتمع والدولة.‏

هذه الحاجات الثلاثة تأخذ طابع الضرورة في المجتمع الرأسمالي ولا يمكن لأي مجتمع رأسمالي أن يتخلى عنها. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن الدولة أو النظام التعليمي يؤدي دوره الطبقي كما يجب في عملية التنشئة الاجتماعية.‏

ومع الأهمية الكبيرة للتعليم الإلزامي من وجهة نظر رأسمالية، فإن هذا التعليم ينطوي على بعض المخاطر الأيديولوجية، فهناك ثمة مخاطر قد تنجم عنه كما يتبدى الأمر بالنسبة للطبقة السائدة. فالتعليم الجيد قد يجعل العمل أكثر وعياً بحقوقهم ومتطلبات وجودهم، وأكثر ميلاً للتمرد والتظاهر والإضراب عن العمل وغير ذلك من الفعاليات الديمقراطية التي تفرض نفسها في العالم الديمقراطي. فالمجتمع الذي تكثر فيه حشود المتعلمين والمثقفين قد يواجه خللاً في عملية التقسيم الاجتماعي للعمل، كما قد يؤدي ذلك إلى إعادة بناء العمل وفق وضعية جديدة من التقسيم الذي لا يناسب بالضرورة مصالح الطبقة الاجتماعية التي تسود وتهيمن. وهذا يعني في نهاية الأمر أن التعليم الأساسي لأبناء المجتمع، وتطوير هذا التعليم بشكل كبير يؤدي، في منظور الطبقة البرجوازية، إلى منافسة جديدة وخطرة بين أبناء الطبقة السائدة وأبناء الطبقة المسودة. وهذا يشكل أحد العوامل الأساسية غير المعلنة عند الأغنياء في اختيار مدارس خاصة ومميزة. ومن هذا المنطلق فإن الطبقة البرجوازية تعمل على أن تقدم للشعب تعليماً أساسياً وإلزامياً لا يتجاوز الحدود الدنيا للوظائف الأساسية المتعلقة بإعادة الإنتاج الاجتماعي الضروري لحياة الطبقة البرجوازية نفسها. وهذه الوضعية نفسها تلعب من الجانب الآخر مكاناً تتحول فيه المدرسة إلى مكان للصراع الطبقي.‏

 لننظر الآن إلى المدرسة ووظيفتها من وجهة نظر الطبقات الاجتماعية الدنيا التي تشكل موضوع استغلال الطبقة البرجوازية. فأبناء هذه الطبقة يجدون أنفسهم غالباً مبكراً في سوق العمل وفي سوق البطالة أوفي مجال الأعمال الصعبة الشاقة. والسؤال التربوي الذي يطرح نفسه هنا قد يبدو مختلفاً عن هذا الذي يطرحه البرجوازيون.فالطبقة البرجوازية تطرح السؤال التالي: كيف نحافظ على النظام التربوي والاجتماعي القائم؟. وعلى خلاف ذلك فإن الطبقات العمالية والفقيرة تطرح السؤال بطريقة أخرى: كيف نغير النظام القائم؟ وما القيم التربوية التي يجب أن تبث وتعلم في المدرسة؟ ولمن تبث هذه القيم وتعلم؟ وكيف يمكن تغيير هذه القيم من أجل تغيير النظام التربوي برمته؟.‏

وبين الاتجاهين والرؤيتين المختلفتين للنظام التربوي تصبح المسألة التربوية أكثر تعقيداً وصعوبة ويأخذ الصراع التربوي إلى أكثر مراحله ضراوة وشدة. والصراع في هذه الحالة يأخذ صورته السياسية في مواجهة النظام الرأسمالي المعقد الذي ينطوي على عناصر ثقافية واقتصادية وأيديولوجية معقدة في تكاملها وتفاعلها ووظائفها أيضاً.‏

إن بناء مجتمع جديد يتطلب بالضرورة بناء إنسان جديد، إنسان يمتلك ثقافة نقدية عالية ويحظى بالقدرة على المشاركة الحية في مجال الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية، إنسان يرفع من شأن المصالح العامة ويفضلها على المصالح الخاصة من أجل بناء مجتمع يضمن مصالح الجميع في مصلحة المجتمع.

بقلم: علي أسعد وطفة (بتصرف)

أضف تعليق


كود امني
تحديث