ثلاثة أشهر كاملة تصفحت فيها أكثر 2000 دراسة حول مختلف أنماط الحياة فى المجتمع الياباني بحثاً عن أسباب نهضة هذا المجتمع وتفوقه. وسبعة أعوام كاملة قضيتها فى هذه البلاد البعيدة أتعلم الأصول الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لنهضة الأمم في منطقة جنوب شرق آسيا. وأرى أن من حق أهل وطني وعشيرتي علىّ أن أنقل لهم خلاصة ما تعلمته خلال رحلة قطعت فيها أكثر من مائة وعشرين ألف كيلو متر طلباً للعلم وبحثاً عن المعرفة. وسوف أحلل فى عدد من المقالات بعض الأوهام السائدة عن فلسفة التربية اليابانية.

  وسوف ينصب تركيزي في هذه المقالة على دحض اعتقاد خاطئ مفاده أن فلسفة التربية في اليابان تقوم على أساس فلسفة "كايزن" أو مدخل التطوير المستمر. حيث يرى بعض القراء أن إدارة المدارس اليابانية وتصميم المناهج الدراسية قد تأثرا تأثراً عميقاً بمدخل التطوير المستمر. والحقيقة أن هذا اعتقاد غير علمي لا يستند إلى أسانيد موضوعية تؤيده. حيث يرى "تاكاشى كوندا" (Takashi Konda) نائب رئيس المجمعية اليابانية للإدارة أن فلسفة التطوير المستمر هى أحد المبادئ الأساسية لعلم الإدارة اليابانية، وأنها أداة لحل المشكلات داخل المصانع والشركات. ويؤكد "تاكاشى كوندا" أن فلسفة "كايزن" تستخدم بصورة أساسية داخل أماكن العمل وليس داخل المدارس. ويرى أن هذه الفلسفة ليست مشروحة في الكتب الدراسية الخاصة بالتعليم قبل الجامعى، كما لا يقوم المعلمون اليابانيون بشرحها للتلاميذ فى المدارس. وعلى هذا فإن فلسفة "كايزن" ليست فلسفة رسمية للتربية فى اليابان.
 

  ويرى الدكتور "إيجيمى ماساكى" (Iijimi Masaki) أستاذ علم الهندسة بجامعة "أيشيى جاكوين" أن فلسفة "كايزن" الإدارية هى واحدة من تقنيات إدارة الإنتاج فى مجال الهندسة الصناعية، وأن البداية المبكرة لتطبيقها كان فى قطاع الصناعة، ومع مرور الوقت تم نقل هذا المدخل الإداري إلى إدارة المستشفيات. وبحلول الثمانينيات انتقل هذا المدخل لإدارة الإنتاج من شركة "تويوتا" إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية. ويؤكد الدكتور "إيجيمى ماساكى" أنّ غالبية الجامعات اليابانية لم تعد تدرس لطلابها فى الوقت الحاضر فلسفة "كايزن" الإدارية، إلاّ أن هناك بعض الجامعات القليلة من جامعة "كيو" وجامعة "واسيدا" وجامعة "أيشيى جاكوين" تدرس هذه الفلسفة الإدارية لطلاب مرحلة البكالوريوس ضمن مقرر دراسي وحيد هو "الإدارة الهندسية". وتقوم قلة من الشركات والمصانع اليابانية بتدريس فلسفة "كايزن" الإدارية للعاملين بها. ونظراً لقيام العديد من الشركات والمصانع اليابانية بنقل مصانعها إلى بلاد أخرى مثل الصين وتايلاند وماليزيا، قل الاهتمام بتدريس فلسفة "كايزن" الإدارية، وتناقص بشدة عدد المصانع اليابانية التى مازالت تدرس فلسفة كايزن الإدارية فى الوقت الراهن.
 

وقد ظهر مصطلح "كايزن" لأول مرة فى العالم الغربى فى مقالة باللغة الإنجليزية عن نظام الإنتاج نشرها الباحث "سوجيمورى كوسونوكى" (Sugimori Kusunoki) فى الدورية الدولية لبحوث الإنتاج في عام 1977. وقد كان الهدف الرئيسي لتطبيق مدخل "كايزن" لإدارة الإنتاج هو تقليل التكلفة والوقت، ولهذا كان يتم تطبيقه على نطاق واسع فى الماضي حتى أوائل التسعينيات من القرن العشرين. ومع نقل العديد من المصانع إلى الدول الآسيوية، ومع استخدام عدد كبير من هذه المصانع للربوت الآلي وللماكينات المتقدمة بدلاً من العمالة البشرية تناقص الاهتمام بتدريس هذا المدخل الإداري. وعلى الرغم من أهمية مدخل "كايزن" فى تقليل التكاليف والوقت، إلاّ أنه لا يؤدى إلى اختراع منتجات جديدة أو ابتكار خدمات مستحدثة. ولهذا بدأت الجامعات اليابانية تدرس أنماطًا جديدة من المداخل الإدارية. ولهذا أيضاً سعت الفلسفة الراهنة للتعليم فى اليابان خلال السنوات العشر الماضية إلى تنمية التفكير الإبداعى.

 
  ويرى "أكيهيكو هاشيموتو"(Akihiko Hashimoto) أستاذ السياسات التعليمية والتقويم بالمعهد القومي لبحوث السياسات التعليمية باليابان أن مدخل "كايزن" ليس فلسفة للتربية يتم تطبيقها داخل المدارس. ويرجع السبب وراء ذلك إلى عدم قبول التربويين اليابانيين لفكرة نقل مداخل الإدارة الصناعية إلى نظام التعليم قبل الجامعى. وعلى الرغم حدوث تحول طفيف فى اتجاهات صانعى السياسات التعليمية منذ عقد التسعينيات، إلا أن الاتجاه السائد هو رفضهم لتطبيق مداخل إدارة الإنتاج داخل المدارس. ويعتقد "أكيهيكو هاشيموتو" أن تأثير فلسفة التربية على النظام التعليمى اليابانى بعد الحرب العالمية الثانية ضعيف. ولهذا لا يوجد فلاسفة مثل "جون ديوى" أو "فروبل" فى اليابان. ومن ثم، فإن تفوق النظام التعليمى اليابانى إنما يرجع إلى توظيف عدة تقنيات وأساليب للتدريس.


  ويمكن القول بأن هناك عدة عوامل أثرت على نظام التعليم اليابانى فى الفترة من 1945 حتى 2012. ومن بين هذه العوامل هى: التراث الثقافى الذى كان ينظر إلى المعلم بعين الاحترام والتقدير، والنظر إلى العملية التعليمية كعملية مبهجة تبعث على السرور، والاعتقاد الاجتماعي بأن المعلمين هم أفراد مقدسون وأصحاب قدرات فائقة، والنظر إلى التعليم باعتباره أحد أساليب الحراك الاجتماعي، والممارسات التربوية الأمريكية وخاصة تلك المتصلة بتنمية القيم الديمقراطية.

      بقلم : أحمد محمد نبوي

أضف تعليق


كود امني
تحديث