من المفروغ منه أن المنظومات التربوية إنما هي نتاج الخيارات الإيديولوجية التي يختارها أصحاب القرار. ولا يمكن الحديث عن منظومات تربوية محايدة. وصناعة المنظومات التربوية تكون وفق غايات وأهداف ما يصرح به منها في الظاهر غير ما هو حقيقة في الباطن، ولهذا تأتي المناهج الدراسية استجابة للغايات والأهداف الباطنية غير المصرح بها ، كما تبدو في الغالب متضاربة مع الغايات والأهداف المصرح بها من أجل التسويق الإعلامي المضلل والمموه على الحقائق المستورة. ولا يوجد شك في أن صناعة المنظومة التربوية عندنا لا تخرج عن هذا القانون المتداول عالميا. ومنذ عقود ومنظومتنا التربوية تستورد مناهجها الدراسية من الغرب العلماني الذي أقام مناهجه على أساس قناعته الإيديولوجية العلمانية. والغريب أن مناهجنا المستوردة تحت شعار أو ذريعة مسايرة الركب الحضاري العالمي، و مواكبة المستجدات المتعارف عليها دوليا في مجال التربية والتعليم تسقط من حسابها هويتنا الدينية والحضارية ذلك أن الأجيال التي تخضع لمناهج غربية علمانية الإيديولوجيا تصير مع مرور الأيام وتواليها أجيالا تتقمص القيم العلمانية، وتنقطع صلتها بهويتها الحضارية والدينية ، وهذا ما نعاينه على أرض الواقع في أجيال متلاحقة تعاملت مع المناهج المستوردة أو بتعبير دقيق مع مناهج علمانية الروح.
وقد يقول قائل إن منظومتنا التربوية ومن خلال غاياتها وأهدافها المعلنة لا تغيب في مناهجها الهوية الحضارية والدينية من خلال إدراج بعض المواد وبعض المكونات الدراسية ذات الصلة بالدين ، ونحن نقول أجل توجد مواد ومكونات دراسية في مناهجنا ذات صلة بالدين ، ولكنها مقحمة إقحاما لمجرد إعطاء انطباع شكلي بأن الهوية الدينية والحضارية لم تهمل وأنها حاضرة بشكل من الأشكال. وتبدو مناهجنا وقد قدت على مقاس المناهج الغربية ذات الخلفية العلمانية هجينة ومسخا لا يتمحض للخلفية العلمانية بشكل واضح، كما أنه لا يتمحض لخلفية الهوية الدينية والحضارية بشكل أوضح. وقد يهون المستوردون لهذه المناهج من شأن هذا التضارب بين خلفيتين على طرفي نقيض ، والحقيقة أن الأمر في غاية الأهمية والخطورة لأنه يتعلق بمنتوج بشري فوق السيطرة ، وليس ببضاعة يسهل التحكم فيها . فالمتأمل لمناهجنا الدراسية يجد أمامه السيطرة المطلقة للخلفية العلمانية، مقابل مقرارات أو حتى دروس بنسب جد ضعيفة لخلفية الهوية الدينية والحضارية.
وأكبر مغالطة ترتكب في حق خلفية الهوية الدينية والحضارية هو محاولة تخصيص مؤسسات تربوية تابعة للمنظومة التربوية لنوع من التربية والتعليم المحسوبين على الخلفية الدينية من أجل التمويه على هيمنة المناهج ذات الخلفية العلمانية. فعندنا يوجد داخل المجتمعات الإسلامية تعليم عتيق أو أصيل أو ديني فهذا تقليد مستورد من الغرب العلماني الذي فصل تعليمه المدني أو العلماني عن التعليم الديني الكنسي . والتعليم الديني المفصول عن التعليم العام عندنا يوحي بأن الدين عندنا صار شأنه شأن الدين في الغرب لا يشغل بال الأغلبية من المتعلمين بل هو اختصاص فئة بعينها مما يعد جناية على الهوية الحضارية والدينية للأمة.
ففي الوقت الذي كان من المنتظر أن تعطى أجيال المتعلمين نفس الجرعة من التربية والتعليم الدينيين حصل العكس حيث صرفت نسبة ضئيلة منهم لما يسمى التعليم الديني تحت مسميات متعددة وبقيت نسبة نصيب الأسد للتعليم المدني أو العلماني. ومن المعلوم أن لكل تعليم مخرجاته التي تنعكس على سلوك المنتوج البشري في واقع الحياة المعيش. والملاحظ في واقعنا المعيش أن ناشئتنا قد انخرطت في المشروع الحضاري العلماني بسبب خضوعها للمناهج التعليمية العلمانية الغربية، في حين باتت القيم الدينية شبه غائبة عند هذه الناشئة. ويكفي أن نقف عند ما يسمى ظاهرة العزوف عن الدراسة التي صارت الطابع المميز لناشئتنا علما بأن خلفية هويتنا الدينية والحضارية تفرض الإقبال على الدراسة والعلم والتعلم بدافع ديني وعقدي وليس بدافع نفعي نظرا لقيام مشروعنا الحضاري على العلم والمعرفة والإقبال عليهما كواجب ديني أو بلغة الدين كفرض عين.
فالناشئة العازفة عن الدراسة خضعت لمناهج دراسية ذات خلفية علمانية تتعامل مع العلم والمعرفة تعاملا ماديا نفعيا، وبزوال المنفعة المادية تزول الرغبة فيهما خلاف المناهج الدراسية ذات خلفية الهوية الدينية والحضارية التي تعتبر العلم والمعرفة من صميم الواجب الديني المتجاوز للمنفعة المادية. ولما كانت المناهج الدراسية ذات الخلفية العلمانية تقصي الدين من اعتباراتها فإن مظاهر التدين شبه غائبة من المؤسسات التربوية عندنا بحيث لا يحظى التدين إلا بالنزر القليل من الاهتمام من قبيل تخصيص بعض القاعات للصلاة.
وقد لا يتجاوز عدد الذين يؤدون الصلاة من المتعلمين أعدادا تعد على رؤوس الأصابع كما يقال ، وفي صلاة العصرأثناء شهور الإفطار وصلاة الظهر في شهر الصيام، وكأن توقيت الصلوات بالمؤسسات التربوية أصبح خاضعا لمذهب فقهي جديد هو المذهب الفقهي العلماني الذي يهيمن على المنهاج الدراسية وعلى المنظومة التربوية. ومن المعلوم أن الحياة في البلاد العلمانية بما فيها الحياة في المؤسسات التربوية تخضع للتنظيم العلماني الذي لا وجود فيه للاعتبارات الدينية، وهذا يعني أن الحياة في هذه البلاد لها توقيتها المناسب نظرا لقناعاتها العلمانية حيث تحدد أوقات الصباح العلماني بعد مرور ما بين ساعتين إلى أربع ساعات حسب فصول السنة على الصباح الإسلامي. ففي الوقت الذي يبدأ صباح البلاد الإسلامية بصلاة الصبح يكون ليل البلاد العلمانية ما يزال مستمرا والناس فيها يغطون في سباتهم العميق. والمشكلة أن الحياة في البلاد الإسلامية وبحكم الاقتباس من البلاد العلمانية والتبعية لها صارت تجمع بين توقيتين متناقضين وفيها صباحان ومساءان وليلان ونهاران ومن ثم اختلف المعاش والسبات والسكون والإبصار.
وناشئتنا التي تخضع للمناهج الدراسية ذات الخلفية العلمانية متأثرة بالجو العلماني بما في ذلك توقيت الدراسة الذي لا يراعي توقيت عبادة الصلاة حيث تضيع صلاة الصبح باستمرار، وكذلك صلاة الجمعة وباقي الصلوات اليومية، لأن التوقيت العلماني لا يناسب أوقات هذه الصلوات. ونظرا لضياع فرصة القيام بعبادة الصلاة وهي الموجه الرئيسي للقيم والأخلاق من خلال وظيفة النهي عن المنكر والأمر بالمعروف إذ هي الآمرة الناهية فإن ناشئتنا تعزل نهائيا عن القيم والأخلاق الإسلامية ، وقد استغل حيز هذه القيم والأخلاق عندها بقيم علمانية لا يمكن إنكارها وإن احتفظت الناشئة بالانتماء الشكلي لهويتها الدينية والحضارية .فعلى سبيل المثال لا الحصر أذكر ما يسمى ظاهرة الغش الدراسي، وهي ظاهرة استفحل أمرها وصارت حديث كل لسان والحقيقة أنها نتيجة الخضوع للمناهج العلمانية التي لا تعنيها إلا الفلسفة النفعية العارية من كل قيم أخلاقية أو دينية.
فناشئتنا تمارس الغش الدراسي لأنها تنطلق من حسابات علمانية تقدم المنفعة على الدين والأخلاق. ولو كانت المناهج عندنا ذات خلفية إسلامية لكان لظاهرة الغش الدراسي شأن آخر عندنا باعتبارها جريمة يرفضها الدين، لا وسيلة لتحقيق منفعة ومصلحة كما هو واقعها في التصور العلماني الذي له قيمه الخاصة به.
وقد يقول قائل إن العلمانية أيضا تحرم الغش وتمنعه ، ونجيب أجل ولكنها لن تفعل ذلك إلا وفق إيمانها بالمنفعة، وهي إيديولوجيا تميل حيث تميل المنفعة ، وقد يصير الغش مبررا فيها إذا اقتضته المنفعة خلاف الدين الذي يصدر عن مبادىء لا تقبل التغيير إذ الحرام فيه دائم الحرمة والحلال دائم الحلية . ومما يؤكد أن المناهج ذات الخلفية العلمانية تعطينا أجيالا علمانية غير متشبعة بقيمها الدينية والحضارية هو نسب النجاح التي تحقق في المؤسسات ذات المناهج المقدودة على مقاس المناهج الغربية العلمانية إذا ما قورنت بنسب النجاح في مؤسسات محسوبة على التعليم الديني بمسميات التعليم العتيق أو الأصيل أو غير ذلك. ولقد كانت نسب النجاح في التعليم العتيق خلال موسمين دراسيين سابقين لافتة للنظر بالمقارنة مع نسب النجاح في التعليم العمومي أو المدني أو الخاضع للنظام العلماني لسبب بسيط هو أن المتعلمين في التعليم العتيق تحكمهم قيم الهوية الدينية والحضارية للأمة في حين أن المتعلمين في التعليم العمومي أو العلماني أو شبه العلماني تحكمهم قيم العلمانية بما في ذلك الفلسفة النفعية لهذا كان اجتهاد المتعلمين في التعليم العتيق بدافع ديني، وكان تراخي الكثير المتعلمين في التعليم العمومي بتأثير الفلسفة النفعية العلمانية. وفي حين تسجل تقارير الملاحظين في الامتحانات الإشهادية مئات الخروقات في المؤسسات العمومية المتعلقة بظاهرة الغش، لا تسجل هذه التقارير شيئا عن هذه الامتحانات في مؤسسات التعليم العتيق ،والسبب واضح بطبيعة الحال.
بقي أن نقول في الأخير أن استيراد المناهج ذات الخلفية العلمانية جريمة في حق أجيال الأمة الإسلامية، وأن محاولة التوفيق بين تربية علمانية وأخرى ذات خلفية تمت بصلة إلى الهوية الدينية والحضارية محض تلفيق لا طائل من ورائه،لهذا لا بد من التفكير في حل لهذه المعضلة يتولى أمرها علماء الأمة وخبراء التربية والمناهج وفي أسرع وقت ممكن وقبل فوات الأوان. وأول محطة هي محاولة إقناع أصحاب القرار بالصدق مع أنفسهم أولا ومع أمتهم لتكون الغايات والأهداف المصرح بها لمجرد الدعاية الإعلامية الخادعة والمغالطة هي نفس الغايات والأهداف المسكوت عنها . وإلى أن يحين وقت تحرك العلماء والمختصين لإقناع أصحاب القرار بتنكب الخيار العلماني في المجال التربوي الذي هو العمود الفقري للمجتمع، فلن يكون المنتوج البشري الناتج عن المناهج العلمانية المقتبسة سوى منتوجا هجينا قد يكون ـ لا قدر الله ـ سببا في ضياع الهوية الحضارية والدينية بعد حين، وقد أعذر من أنذر، ولربما ذكرني قومي وقد جد جدهم، وأرجو أن لا يكون ذلك بعد ساعة ندم ولات حين مندم.
بقلم : محمد شركي