ينطلق دكتور محمد أندلسي في كتابه «نيتشه ومعضلة التربية» من افتراض أنّ مشروع نيتشه في التربية جزء لا يتجزأ من مشروعه الفكري العام، الذي تروم فلسفة نيتشه تحقيقه، ويتعلق الأمر بمشروع تفكيك ما يطلق عليه نيتشه أحيانا «الأخلاق» بصفة عامة، وأحيانا أخرى «مرض القيود»؛ ويتعلق الأمر بنسق من التمثلات الأخلاقية والدينية والميتافيزيقية التي توجد في أساس الحضارة الإنسانية، وتم تشربها من قبل الكائن الإنساني، كمبادئ محددة لحياته داخل المجتمع، وكقواعد موجهة لسلوكه. ويفهم من لفظ «الأخلاق» هنا، وداخل فلسفة نيتشه بمعناه الواسع، الذي يجعل منه نمط تفكير وأسلوب حياة، حيث تشخيص علاماته وأعراضه من قبل التحليل الجينيالوجي يجلّي طبيعة «المرض» الذي تعاني منه الحضارة الغربية، والذي يمكن اختزاله في ثلاثة أعراض أو مظاهر أساسية، وهي : «الضغينة»، «الوعي الشقي» و«المثل الأعلى الزهدي»، والتي ليست سوى تجليات مختلفة لما يطلق عليه نيتشه «الانحطاط» أو «العدمية».

 ويعتبر الباحث المغربي الإشكال التربوي، كما يبلوره نيتشه في مشروعه الفلسفي، يتجلى عبر أربعة مظاهر محورية، يشكل كل واحد منها ثيمة خاصة بأحد فصول الكتاب الأربعة، بينما يشكل الفصل الخامس والأخير تحيينا لمفهوم التربية لدى نيتشه، حيث يسعى إلى استخلاص وبلورة ديداكتيك مفهوم القراءة انطلاقا من أرضية فلسفة الجينيالوجيا.

 في الفصل الأول من هذه الدراسة تطرق د. أندلسي إلى مظهر تحليل التربية لدى نيتشه، وتناول فيه تصوره للثقافة كمفهوم وكمبادئ، كأهداف وكغايات، ويميز في ذلك التصور بين مستويين: مستوى الوظيفة المبدئية للثقافة، ومستوى الوظيفة التاريخية للثقافة؛ كما حاول بلورة منظور نيتشه التيبولوجي للثقافة، من خلال التمييز بين «النموذج الارتكاسي» للثقافة وهو النموذج المهيمن والغالب، وبين «النموذج الفاعل» للثقافة، والذي يشكل أقلية.

 يتناول الفصل الثاني نقد نيتشه للثقافة الألمانية، وذلك بالاعتماد على نص «اعتبارات في غير أوانها»، وهو نص تربوي/سجالي في عمقه، ينتمي إلى المرحلة الأولى من تطور الفكر النيتشوي، وهي مرحلة متزامنة مع اهتمامه بالتربية ونقد الثقافة، حيث يعترض نيتشه على الثقافة السائدة في عصره، والتي يلقبها بالثقافة المنحطة، ويقترح تصورا جديدا للثقافة يعتبره شرطا لا غنى عنه للنهضة الأوربية، كما يفكك هذا المبحث الثقافة المزيفة التي تتخذ من «الأب» نموذجا ملهما لها، بينما يرى نيتشه أن «الأب» الحقيقي والأصيل هو ذلك الذي يحرص على أن يكون حضوره باهتا ومنسحبا، بل يطالب الأبناء بالاستغناء عنه على غرار «أوديب» الأسطورة.

 أما الفيلسوف/المربي فهو ذلك الذي يسعى إلى التحرر من قيود الماضي واستشراف المستقبل من خلال تشخيص أوضاع الحاضر، وتعقب التحولات المستمرة التي يخضع لها الكائن خلال تاريخه، وهو في طريقه إلى ذاته أو لكي يصير إليها، كما يشي بذلك العنوان الفرعي لمؤلفه الأخير «هذا هو الإنسان».

 يعالج الفصل الثالث من الكتاب المظهر الثالث من المقاربة النيتشوية للتربية، حيث ينتقد نيتشه التربية المؤسساتية، بما هي تربية تفتقر إلى الأساس، فما تمارسه مؤسسات التربية والتعليم لا يمكن إدراجه تحت مقولة التكوين أو التربية، بل هو عبارة عن «ترويض» و«تدجين» يهدف إلى جعل المربي والمتعلم في خدمة مصالح المؤسسات، وقابلين للاستعمال من طرف الدولة.

 ويحاول هذا المبحث إجلاء الترابط القصدي، الذي يقيمه نيتشه بين بناء مفهوم جديد للتربية وبين إعادة تجديد الفكر الفلسفي عبر إعادة تعريف الفلسفة وإسناد وظائف جديدة لها. ويتعلق الأمر بإماطة اللثام عن المحاولة المبكرة لنيتشه لقلب الميتافيزيقا، وذلك من خلال وضع أصول الفكر الفلسفي – كما أرساها أفلاطون وفهمها أرسطو- موضع تساؤل جذري، والسعي إلى بلورة تصور جديد للفلسفة، بما هي قدرة على مواجهة المعضلات الصعبة التي تطرحها التربية، وهي بصدد الاشتغال على إعادة بناء الذات الإنسانية بناء جديدا يمكنها من مقاومة «القوى الارتاكسية» بداخلها، والسعي إلى تمكين «القوى الفاعلة» من السيطرة عليها وتوجيهها.

 ويتناول الفصل الرابع بالتحليل المظهر الرابع لتصور نيتشه للتربية، كما يندرج ضمن إشكال فلسفي أوسع يتعلق بنقد الميتافيزيقا، حيث الإشكال الفلسفي الذي يسعى هذا المبحث إلى إثارته، والتفكير فيه يمكن صياغته على النحو التالي: هل الأهمية الكبرى التي يحتلها مفهوم التربية والتكوين داخل الفلسفة النيتشوية في مرحلتها الأولى، هي علامة على الطابع الميتافيزيقي لفلسفة نيتشه، كما ذهب إلى ذلك هايدغر في كتابه حول نيتشه، أم أن هذا الاهتمام بالتربية ومحوريتها داخل فكره، هي على العكس من ذلك تماما، خير تجسيد للطابع الميتافيزيقي لفلسفة نيتشه، حيث يرتبط ذلك الاهتمام بدعوته الفيلسوف إلى القيام بمهام جديدة حتى لو لم يكن مهيأ لها؛ أي أن يصير «طبيبا للحضارة»، مطالب بتشخيص أعراض «علل» و «أمراض» الحضارة. كما يدعو الفيلسوف إلى الاهتمام بشكل أكبر بالتربية نظرا لما تكتسيه من أهمية في سياق التهيئ لمجيء «الإنسان الأعلى»/ إنسان المستقبل، وأيضا لأن التربية تضطلع بمهمة استراتيجية في الفكر النيتشوي.

 ويروم دكتور محمد أندلسي في الفصل الخامس والأخير، وهو فصل إجرائي تطبيقي، تحيين مفهوم التربية لدى نيتشه، وكذلك تصوره للثقافة، من خلال محاولة استخلاص من ثنايا نصوص المتن النيتشوي، ما يمكن أن يصطلح عليه بــ «ديداكتيك القراءة» لدى نيتشه، ويندرج ضمن مقولة «السياسة الكبرى» في فلسفته. فالقراءة الفاعلة لا تكتفي بمعاينة الحركة الداخلية للمفاهيم، ولا بمجرد إدراك البناء المعماري للتمثلات، بل تتجاوز ذلك إلى مستوى الإنصات لرنة جسد النص، والإصغاء لهدير حياة المفاهيم، وضجيج العمق. فاللغة التي تكتب بها النصوص الفلسفية تنبعث من «التعبير الأولى للجسد» بتعبير نيتشه، وقدرة القارئ الجينيالوجي على معاينة الاستعارة، والتقاط إيقاعاتها داخل النصوص الفلسفية، هي التي تمكنه من الإصغاء إلى هدير حياة المفاهيم الفلسفية، بينما الميتافيزيقي لا يرى فيها سوى تمثل، هو بمثابة «ظل للمعقول» أو «نسخة للمثال»، فالميتافيزيقا تقلب الوقائع، ولهذا تعتبر «الجينالوجيا» ذاتها إعادة «توليد للغة»، وبالتالي العمل على فضح «كذب» و «زيف» اللغة المفهومية المجردة.

 ويخلص الباحث إلى أن الثقافة أو التربية المنشودة من قبل نيتشه، هي تلك التي تكون محايثة للحياة ومتفاعلة معها، تستشرف المستقبل من خلال أوضاع الحاضر، ومتابعة التحولات المستمرة للإنسان، ومؤسسات التربية والثقافة حين تضع نفسها في خدمة الدولة، تصبح مناهضة للحياة، وتتحول إلى مقبرة لها.

بقلم: هشام بن الشاوي

أضف تعليق


كود امني
تحديث