من وحي العبارة التي قالها الرئيس جمال عبد الناصر للأديب والناقد ثروت عكاشة عند تعيينه وزيراً للثقافة، التي أتينا على ذكرها في مقالنا عنه، وخاطب فيها الأول الثاني: «وتذكّر أن بناء المصانع أسهل.. بناء الإنسان صعب جداً»، سألتني إحدى الأديبات: «وكيف يبنى الإنسان»؟ سؤال بسيط ومعقد في آن؛ بل إنه محور كل شيء في الحياة، أليست الغاية في المجتمعات، السوية منها على الأقل، هي بناء الإنسان؟
فلن يستوي بناء المجتمع إن لم يتم بناء الأفراد، الذين يشكلون في مجموعهم المجتمع المعني، ولن يستوي بالمقابل بناء الإنسان إن لم تحدد التدابير اللازمة لذلك، والأهم أن تكون هذه التدابير موجهة نحو الغايات السامية التي يتعين أن يكون هذا الإنسان محورها.
بشكل عفوي أجبتُ بالتالي: بالتعليم، والثقافة، والحياة الحرة الكريمة. ولا أعلم إن كان جوابي هذا كافياً، أو يغطي جوانب من الإجابة المطلوبة عما وصفناه بالسؤال السهل والمعقد في الآن ذاته. السؤال سهل في ظاهره، فما أكثر القيم النبيلة التي تخطر على بالنا، حين نسمع سؤالاً مثل هذا، لكن دون ذلك صعوبات لا تحصى، هي نفسها التي شغلت الفلاسفة والمفكرين، لا في عصرنا الراهن فقط، وإنما عبر العصور.
في مطلق الأحوال لا يمكن بناء الإنسان بدون الشروط الثلاثة المذكورة: التعليم، الثقافة، الحياة الحرة الكريمة. فالإنسان لا يبني إذا ساد الجهل، وتفشت الأمية، وغابت المدارس والمعاهد والجامعات، وهذا ما تدل عليه تجارب كل الأمم، بمن فيها نحن العرب، ولم يعد التعليم امتيازاً للنخب، وإنما هو حق للجميع دون استثناء، تكفله السنن والشرائع الدولية، ويزداد تقدّم الشعوب كلما علا مستوى التعليم وجودته، وكان القائمون عليه من أهل الاختصاص فعلاً، وتتدهور حين يتدهور مستوى التعليم وتغيب جودته، ويعهد أمره لمن هم ليسوا أهلاً للمهمة.
والتعليم والثقافة متلازمان. ما أكثر المواهب التي طمرت وضاعت لأن أصحابها لم يتوفر لهم التعليم الحديث، وحين يسود التعليم تتفتح المواهب وتزدهر ويشيع الوعي الثقافي، وترّشد الذائقة وتعلو، ويُحدّ من سطوة الخرافات والخزعبلات، وكما في التعليم، لن تنهض الثقافة إلا بتولية من أهم أهل لها، على رأس الوزارات والهيئات المعنية بها، الذين يُدركون أن التنمية الثقافية لا تقوم إلا بوجود بناها التحتية، الأشبه بالصناعة الثقيلة، من مكتبات ومسارح ومعاهد متخصصة وغيرها.
ومع أن التعليم والثقافة طريقان لا بد منهما لتأمين الحياة الحرة الكريمة للناس، لكن لهذه الأخيرة شروطاً أخرى، بدونها لن يتحقق بناء الإنسان المرجوّ، وهذا يحتاج إلى شيء من التفصيل نأتي عليه في حديث آخر.
بقلم: حسن مدن