الكُتاب، وكل المعنيين بالكتابة، يعرفون أنه تمر في أذهانهم، وفي أوقات مختلفة، فكرة أو مجموعة أفكار، جديرة بأن تسجل، أي تكتب، فتجد لنفسها مكاناً في سياق ما يكتبون، أو أنها نفسها تصبح ملهماً، أو مدخلاً لولوج عوالم أفكار أخرى.
قد ترد مثل هذه الأفكار ونحن نحتسي قهوتنا في البيت أو المقهى منفردين، أو نحن نقود سيارتنا في اتجاه من الاتجاهات، أو نلتقطها من حديث صديق يسامرنا، أو من تعليق في الإذاعة أو التلفزيون. ويحدث أيضاً، ودون أي مقدمات وفي الكثير من الحالات دون مناسبة، أن تقفز إلى الذهن ذكرى أو ذكريات مضى عليها زمن طويل، وطويل جداً أحياناً، حتى خلنا أننا نسيناها، والذاكرة هي جزء من عدة الكاتب، من المخزون الذي يغذيه كي يستمر في الكتابة.
لكن الحكاية ليست في هذا كله، وإنما في حقيقة أن هذه الأفكار التي تحضر في أذهاننا لوهلة، وكذلك الذكريات التي تستيقظ دون سابق إنذار، فينتابنا شعور بالنشوة والسعادة أننا أمسكنا بفكرة، أو بتنا على عتبة من عتباتها، عرضة للنسيان السريع، عندما تحاول تذكرها حتى بعد ساعات، ولا نقول بعد أيام، كأن نضع رؤوسنا على مخدة النوم، وقبل أن نغفو تحضر فكرة أو تقفز ذكرى، ثم نخلد إلى النوم، وحين نصحو في الصباح نحاول تذكر ما حضرنا قبل النوم لا نعثر عليه في رؤوسنا، وقد لا يحضر مرة أخرى، ولنا تخيل مقدار الخيبة أو الإحباط الذي ينتابنا ساعتها، مبدداً شعور النشوة الذي كنا عليه حين حضرتْ.
ربما لهذا السبب بالذات ينصحنا فالتر بنيامين في كتابه «شارع ذو اتجاه واحد»، بألا ندع أي فكرة تمر مجهولة، وأن نحتفظ بمفكرة ملاحظات بنفس الصرامة التي تحتفظ بها السلطات بسجل الأجانب.
لو أردنا تبسيط هذه الفكرة، وربما تسطيحها بعض الشيء، لقلنا إنه يتعين علينا أن نلقي القبض على الفكرة قبل أن تفر، وألا نطلق سراحها أبداً قبل أن تجد لنفسها مكاناً في كتابتنا، أو نتيقن أنها ليست ملهمة أو مهمة بما يكفي، وأن شعاعها الذي تراءى لنا ساعة أشرقت في أذهاننا شعاع ضعيف سرعان ما يتبدد لأنه أقل من أن يضيء دهليزاً معتماً نحب أن نلجه.
ولأننا استشهدنا بفالتر بنيامين، فلا بأس لو ذكّرنا بنصيحة أخرى له يقول فيها: «اجعل قلمك يترفع عن الإلهام وسوف يجذبه نحوه بقوة مغناطيس، وبقدر ما يتيح من التأني في تسجيل فكرة عرضت لك، بقدر ما يكون أشد نضجاً حين تسلم نفسها إليك عن طيب خاطر. الكلام يهزم الفكرة لكن الكتابة تسيطر عليها بمهارة».
ثمة نصيحة أخرى ذات صلة: إملأ فترات انقطاع الإلهام بتبييض ما انتهيت إليه، وسوف يصحو الإلهام في هذه الأثناء.
بقلم: حسن مدن